: آخر تحديث

صرخة غزة في الذكرى الثامنة والثلاثين لحماس

1
1
2

في خضمّ الدمار الذي لا يوصف، وتحت وطأة آلة الحرب الإسرائيلية التي لم تترك حجرًا على حجر في قطاع غزة، تأتي الذكرى الثامنة والثلاثون لتأسيس حركة حماس محمّلة بمرارة غير مسبوقة وشعور ثقيل بالخيبة بين أهالي القطاع المنكوب. إن ما يتردد اليوم في أزقة غزة المدمّرة، وفي خيام النزوح الباردة، ليس أناشيد النصر أو خطابات التمجيد المعهودة، بل هي صرخة غضب مكتومة تحمّل الحركة جزءًا لا يُستهان به من مسؤولية الكارثة التي حلّت بهم.

إن الرأي العام في القطاع، والذي بات يعيش تحت خط الفقر والجوع والقصف المستمر، يرى في هذه الذكرى احتفالًا يفتقر إلى الحس بالواقع المأساوي. فكيف لحركة أن تحتفل بذكرى تأسيسها، بينما أجزاء كبيرة من البنية التحتية والنسيج الاجتماعي للقطاع قد دُمّر، وبات مصير ما يزيد على مليوني فلسطيني معلّقًا على مفاوضات متعثرة ووعود إغاثية خجولة؟ هذا الشعور بالغضب لا ينبع من معاداة للمقاومة في حدّ ذاتها، بل من قناعة مريرة بأن تكلفة هذا الصراع، في شكله الحالي، قد فاقت قدرة القطاع وسكانه على التحمل، وأن الاستراتيجيات المتّبعة لم تجلب لهم سوى المزيد من الخراب والخسارة.

لقد تحوّل قطاع غزة إلى رمز للمأساة الإنسانية، حيث لا يكاد يوجد منزل لم يتضرّر، أو عائلة لم تفقد عزيزًا، أو مستقبل لم يُجرّد من أمانه. هذا الواقع المرير يضع على عاتق حماس مسؤولية تاريخية وأخلاقية، تقتضي التساؤل: هل كان الثمن المترتّب على المواجهة الأخيرة مبررًا؟ وهل تم إعداد خطة شاملة لاستيعاب نتائج هذه الحرب المدمرة على البنية التحتية والنسيج الاجتماعي والاقتصادي للقطاع؟ الحديث اليوم في غزة، كما تشير تقارير وشواهد عدة، ليس عن مجرد إعادة الإعمار، بل عن إعادة اكتشاف الذات وتقرير المصير بعيدًا عن سطوة الحسابات الفصائلية.

الصوت الذي يرتفع من تحت الركام، صوتٌ غاضبٌ وشجاع، يرى في ضعف الحركة الحالي ووصولها إلى نقطة "الإنهاك" العسكري والسياسي فرصة للتحرر من عقود من الانقسام والحكم الذي لم يجلب سوى الحصار والمواجهة المتكررة. هذا الانتقاد ليس نابعًا من عمالة أو خيانة، بل هو صرخة وجع من شعب يرى أن تضحياته الهائلة لم تُستثمر في مشروع سياسي قابل للحياة، بل في استمرار دورة الصراع التي يأتي ثمنها من دمه وحياته اليومية.

من هذا المنطلق، يمكن قراءة الانتقاد الموجّه لحماس بكونه انتقادًا موضوعيًا لإدارة الصراع، لا لمبدأ المقاومة نفسه. فالقيادة السياسية الفاعلة يجب أن تزن ميزان القوى بدقة، وتضع في اعتبارها القدرة على حماية المدنيين والبنية التحتية من الرد الإسرائيلي المتوقع. والإجابة عن السؤال عمّا إذا كانت حماس قد استطاعت بناء منظومة سياسية واقتصادية قوية بما يكفي لتحمل ضربات كهذه تبدو واضحة في المشهد الحالي. إن الافتقار إلى قيادة سياسية حقيقية تملك رؤية لما بعد المعركة، وعدم القدرة على ترجمة "الصمود" إلى إنجازات سياسية مستدامة تخدم مصالح الشعب، هو مربط الفرس في هذا النقد. المقاومة يجب أن تكون وسيلة لتحقيق أهداف سياسية واضحة، لا غاية بحدّ ذاتها تستهلك طاقات الشعب.

على صعيد التطورات السياسية، تظل مفاوضات شرم الشيخ، التي تشارك فيها أطراف إقليمية ودولية، هي الخيط الرفيع الذي يتعلق به أمل إنهاء هذا الكابوس. حتى اللحظة، تدور هذه المفاوضات في فلك وقف إطلاق نار مستدام، وتبادل للأسرى، ووضع تصور لإدارة قطاع غزة في اليوم التالي. الصعوبة تكمن في التناقض الجذري بين شروط الطرفين. فإسرائيل، وبالرغم من الضغط الدولي المتزايد، لا تزال تصرّ على تفكيك القدرات العسكرية لحماس وإبعادها عن الحكم، بينما ترفض حماس التنازل عن دورها أو سلاحها.

الواقع يفرض على جميع الأطراف أن تدرك أن الحل ليس عسكريًا صرفًا، فأي ترتيب مستقبلي لغزة لا يضمن كرامة وأمن وحياة طبيعية لسكانها، ولا يوفر آفاقًا اقتصادية، هو مجرد تأجيل للجولة القادمة من العنف. ومطالبة أهالي غزة بـ"المستقبل الخالي من حماس" لا تعني بالضرورة قبول الوصاية الإسرائيلية أو استبدال فصيل بآخر، بل هي دعوة عميقة للوحدة الفلسطينية، ولِبناء سلطة وطنية موحدة وفعّالة، تستثمر الدعم الدولي في البناء لا في المزيد من الخنادق.

إن اللحظة التاريخية التي يتحدث عنها سكان غزة هي لحظة صحوة، وهي فرصة لجميع الفلسطينيين لكي ينهضوا من تحت أنقاض الانقسام، ويطالبوا بمشروع وطني حقيقي يضع مصلحة المواطن الفلسطيني فوق كل اعتبار. فالاحتفال الحقيقي ليس بذكرى تأسيس، بل باليوم الذي يستعيد فيه الغزيون حقهم في العيش الكريم والأمن. إنه نداء للجميع بضرورة الاستماع إلى صوت الشعب الذي دفع الثمن الأغلى، والعمل جديًا لإنهاء حكم الإرهاب والإهمال، وإرساء مستقبل ينعم بالكرامة والأمن والحياة الطبيعية.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.