(اليوم) هو موعد صدور كتاب «يوميات سجين» الذي ألفّه الرئيس الفرنسي السابق، نيكولا ساركوزي، بعد أن أمضى في سجن «لاسانتيه» في باريس نحو 20 يوماً فقط، حيث كان يقضي عقوبة بالسجن 5 سنوات بتهمة التورط في مؤامرة تتعلق بتمويل حملته الرئاسية بأموال ليبية، وأصبح بذلك أول رئيس فرنسي، في الجمهورية الخامسة (منذ 1958)، يدخل السجن، وهو أيضاً الرئيس الوحيد في الاتحاد الأوروبي، الذي تنفذ فيه هذه العقوبة.
لكنّ الرئيس استأنف الحكم، وخرج بعد 20 يوماً ليواجه القضاء من جديد، ووجدها فرصة لكي يصدر كتاباً متوسط الحجم يتوقع أن يحقق مبيعات عالية.
حكى الرئيس المتهم بتشكيل «عصابة أشرار»، في مقابلة مع صحيفة «لوفيغارو»، عن تجربته القاسية والمؤلمة والقصيرة في هذا السجن. كاشفاً عن أنه خطَّ الكتاب بمعظمه في أثناء وجوده خلف القضبان «بقلم حبر جاف على طاولة خشبية صغيرة يومياً»، وأنهاه بعد إطلاق سراحه في 10 نوفمبر (تشرين الثاني). وحسب الصحيفة، يقول ساركوزي: «كنت أكتب بقلم حبر على طاولة صغيرة من الخشب، كل يوم، أعطي الأوراق لمحاميّ، فيعطونها لسكرتيرتي لكتابتها على الحاسوب».
الرئيس الذي تمتع بنظام غذائي في محبسه يتكوَّن من «منتجات الألبان وألواح حبوب الشوفان والشعير والمياه المعدنية وعصير التفاح وبعض الحلويات»، وفي ليلته الأولى داخل الزنزانة، ركع ساركوزي وصلى بعد مشاهدة مباراة كرة قدم. يقول في هذا الكتاب: «دعوت الله أن يمنحني القوة لأتحمل صليب هذا الظلم». وعن تجربته في السجن، قال: «سيطر اللون الرمادي على كل شيء، والتهم بشراهة كل شيء، وغطى كل سطح»، متابعاً: «كنت سأعطي كل شيء مقابل أن أتمكن من النظر عبر النافذة أو للاستمتاع بمشاهدة السيارات وهي تمرّ».
ليس بعيداً عن فرنسا؛ عبر جبال الألب، تقع إيطاليا، حيث سُجن المثقف والمفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي، في سجن رهيب اختاره له زعيم النظام الفاشي موسوليني عام 1926، أمضى فيه العشر سنوات الأخيرة من عمره قبل أن يموت تحت التعذيب في 27 أبريل (نيسان) 1937. وفي تلك الظروف القاسية كتب «دفاتر السجن»، التي تعدّ أهم أعماله، تناول فيه مفاهيم الثقافة، والهيمنة الثقافية، وشكلّت كتاباته إسهاماً جوهرياً في الفكر السياسي، وتُعدّ نصوصه تحدياً فكرياً عميقاً بسبب استخدامه لرموز ولغة مشفرة لمواجهة رقابة السجن، فقد استفاد صاحب نظرية «المثقف العضوي» من فترة انتقاله من السجن إلى مصحة للعلاج حين تدهورت حالته لكتابة هذه المذكرات قبل أن يموت.
لم يجادل غرامشي في ظروف السجن، كانت الفكرة تستّبد باهتمامه أكثر، كتب نقداً للنظرية الماركسية التي تبناها، وحاول كشف ما عدّه أساليب الرأسمالية في الهيمنة الثقافية، وأكد أهمية التعليم خاصة للطبقات الدنيا في المجتمع، ثم ميّز باهتمام بين المجتمع السياسي الذي تمثله الدولة، والمجتمع المدني الذي يتشكل من خلاله نظام المجتمع المحلي.
يمكن القول إن السجن مثّل فرصة أمام غرامشي لتوليد أفكاره الكبرى، أو إنه امتحن في السجن تلك الأفكار والقناعات، مثله مثل نيلسون مانديلا، الذي دخل السجن ثائراً وخرج منه إصلاحياً، ومثل الأديب الروسي فيودور دوستويفسكي الذي كتب في سجن «كاترجا» بسيبيريا رواية «منزل الأموات»، وهي شبه سيرة ذاتية، تصور تجاربه بوصفه سجيناً سياسياً، ومثل جواهر لال نهرو، أحد زعماء حركة الاستقلال في الهند، الذي كتب من سجنه (في أثناء الحكم البريطاني)، كتاب «اكتشاف الهند»، وكتابه «لمحات من تاريخ العالم» عبر رسائل إلى ابنته أنديرا غاندي. وبالمناسبة، فإن الأب الروحي للهند المهاتما غاندي هو الآخر دخل السجن وأنتجت سنوات سجنه فيما بعد كتاب «قصة تجاربي مع الحقيقة».
مثّلت تجربة السجن مراجعة نفسية وفكرية، منحت أصحابها، مهما اختلفت مشاربهم، فرصة للتأمل وإعادة اكتشاف الأنساق الثقافية التي آمنوا بها، أو إحداث مراجعات أفضت إلى تغييرات جوهرية في المنهج، بعض تلك التحولات صنعت مسارات واعية نحو فكر أكثر تقدمية وواقعية، مثلما فعلت مع غاندي وبعده مانديلا اللذين وجدا في حركة الحقوق المدنية بديلاً عن العنف والمواجهات الدموية، وبعض التحولات ارتدّ أصحابها نحو الأفكار الماضوية والمتشددة... (في سجنه، تحوّل سيد قطب، فكرياً، من النقد الأدبي والاجتماعي إلى تأسيس فكرة «الجاهلية» و«الحاكمية»، ومثّل كتابه «معالم في الطريق» منعطف التحول في فكره من طور الاعتدال إلى طور التشدّد).
ما يجمع السياسي ساركوزي بمئات المثقفين الذين سكنوا السجون أنهم جميعاً اكتشفوا في السجن قوة الحرية وقوة العقل وقوة الروح، وهي قوى جامحة لا تقيّد بقيود، واكتشفوا القدرة على تحويل الزمن في السجن إلى أداة وعي، وتحويل العزلة إلى فرصة لإعادة التركيب من جديد.

