: آخر تحديث

مسارك اختيارك

5
6
5

في يومٍ عادي تماماً، دخلتُ مقهى مزدحماً بالحكايات. جلستُ قرب امرأة تُدوّن شيئاً في دفتر جلدي بلون الحنين. لم أتعمد التطفل، لكن ملامحها كانت تصرخ بصوت خافت لم يسمعه أحد غيري: «أنا أختنق».

وبعد دقائق من الصمت، رفعت رأسها وحدّقت في فنجانها الفارغ كأنها تحاول قراءة طالع عمرٍ لم تعشه بعد، ثم همست لنفسها:

«لو أقدر، أعيش حياة أكتبها بنفسي... مو حياة انفرضت عليّ».

ذلك الصوت، ليس غريباً. كثيرون يعيشون حيوات لم يختاروها. يمشون على خرائط وُضِعت لهم من دون سؤال، ويتنفسون وهم يجهلون أن الأوكسجين الحقيقي هو حرية القرار.

علم النفس يُسمي هذا «العيش وفق السيناريو الخارجي»، حيث يتحول الإنسان إلى استجابة أوتوماتيكية لما تُمليه عليه الأسرة، التقاليد، أو الخوف من الرفض.

لكن حين يشعر الإنسان بأنه هو من يكتب تفاصيل حياته -كما تشير نظرية التوجيه الذاتي (Self-Determination Theory) للعالِمين ديشي ورايان- فإنه يزدهر نفسياً، ويشعر بالسعادة، والانتماء، والمعنى.

أن تكتب حياتك، لا يعني أن تغيّر كل شيء دفعة واحدة، بل أن تبدأ بالسطر الأول: «أنا أختار».

أتذكر فتاة اسمها ريم، جاءت إليَّ قبل سنوات، فتاة ثلاثينية هادئة، تعمل في وظيفة لا تشبهها، متزوجة من رجل لم تحبه، وتربّي أبناءً بأسلوب لم تكن تؤمن به.

في إحدى الجلسات، قالت لي وهي تضحك بمرارة:

«أنا عمري ما قررت شيئاً... حتى اسمي اختارته جدتي».

ضحكنا معاً، لكن وجعها لم يضحك.

اقترحت عليها تمريناً بسيطاً:

«اكتبي الحياة اللي تحلمين تعيشينها، وكأن ما في شيء يوقفج».

كتبت ريم، بصدق. كتبت عن الحُب، والشغف، والحرية، والعلم.

ومع الوقت، بدأت تتغير: استقالت من عملها، التحقت بدورة فنون، بدأت مشروعاً صغيراً، وكتبت أول مقال بصوتها الحقيقي.

كانت تُعيد كتابة قصتها، لا لتُرضي أحداً، بل لتتصالح مع نفسها.

ولأن العلم لا يخون، تشير دراسة في جامعة هارفارد إلى أن كتابة الرؤية المستقبلية لمدة 15 دقيقة يومياً تؤثر بشكل مباشر على دوائر التحفيز العصبي، وتزيد من مشاعر الثقة والدافعية بنسبة 44 في المئة.

الدماغ -كما تثبت أبحاث الأعصاب- لا يميّز كثيراً بين التجربة الواقعية والمُتخيَّلة إن كانت مشبعة بالعاطفة والتفاصيل.

ببساطة، كلما كتب الإنسان، صدّق... وكلما صدّق، بدأ يعيش كما كتب.

كتابة الحياة ليست فعلاً رومانسياً... بل ثورة ناعمة على الصمت.

هي الطريقة الوحيدة التي تسترد بها المرأة قلمها من يد العالم، وتكتب ما يليق بها، لا ما يُتوقع منها.

في نهاية جلستي بالمقهى، التفتت لي تلك المرأة، وقالت فجأة، وكأنها كانت تقرأ أفكاري:

«ما في أحد يمنعچ تكتبين حياتچ... إلا إذا أنتي سلمتي القلم بإيدچ».

ابتسمت.

لم أخبرها أني مختصة في الإرشاد النفسي، ولا أنها كانت درساً لي أكثر مما كانت تبحث عن أجوبة.

عدتُ إلى المنزل، وفتحت دفتري القديم.

وكتبت:

«هذه حياتي، ولن أعيشها على هامش أحد»...

تحياتي


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد