: آخر تحديث

«المنطقة الرمادية» للدبلوماسية العامة

6
4
4

ترتبط الدبلوماسية العامة ارتباطًا وثيقًا بمفهوم القوة الناعمة، أي القدرة على التأثير والإقناع دون اللجوء إلى أدوات القوة الصلبة؛ مثل الإكراه (العصا) أو المال (الجزرة). غير أن التداخل المتزايد بين أدوات التأثير المختلفة، وبين ما هو أخلاقي وغير أخلاقي، أوجد وضعًا يمكن تسميته بـ «المنطقة الرمادية» في الدبلوماسية العامة؛ وهي تلك الحالات التي يصعب فيها تصنيف الممارسة: هل تمثل تعبيرًا عن قوة ناعمة، امتدادًا لقوة صلبة، مزيجًا ذكيًا بين الاثنين، أم غير ذلك؟

ورغم أهمية هذه المنطقة من الناحية النظرية والعملية، إلا أنها لم تحظ بالاهتمام الكافي في البحوث والدراسات الأكاديمية، وتغيب عن إدراك الكثير من ممارسي الدبلوماسية العامة أثناء نشاطهم العملي. إن فهم هذه المنطقة الرمادية يفرض علينا إعادة التفكير في أدوات التأثير ومقاصدها، والاعتراف بأن العالم لم يعد يعمل فقط وفق ثنائية ناعمة/ صلبة، بل بات يميل نحو استخدام متقاطع ومعقد لمصادر القوة، يتطلب قراءة نقدية وممارسة أكثر وعيًا. ولعل التحدي الأكبر اليوم لا يتمثل فقط في تمييز هذه المنطقة، بل في كيفية توظيفها بمسؤولية، بما يضمن تأثيرًا ناعمًا لا يفقد بوصلته الأخلاقية، ولا يتحول إلى مجرد ستار لقوة صلبة أو حتى «قوة حادة».

وفي هذا السياق، من المهم التفريق بين مفاهيم «المنطقة الرمادية»، و»القوة الذكية»، و»القوة الحادة»، وفهم العلاقة التي تربط بينها:

فالمنطقة الرمادية هي نطاق يتقاطع فيه الناعم والصلب، يتسم بغموض (مقصود أو غير مقصود)، وتُستخدم فيه أدوات ناعمة في ظاهرها، لكنها تخدم أهدافًا صلبة مثل «الإكراه غير المباشر» أو «الإغراء» الهادف لتعظيم درجات التأثير والإقناع.. فالرمادية هنا لا تعني بالضرورة عدوانية أو تضليلًا، بل تعددًا في طبقات التأثير وغموضًا في النوايا. أما القوة الحادة، فيمكن فهمها على أنها قوة ناعمة تُستخدم بوسائل غير أخلاقية ولأهداف غير نزيهة، وهي أداة هجومية نشطة تهدف لفرض السيطرة والنفوذ والتلاعب بالمجتمعات، وليس مجرد التأثير والإقناع المشروع.

في المقابل، تشير القوة الذكية (smart power) إلى القدرة على المزج المناسب بين القوة الناعمة والقوة الصلبة، بما يحقق أقصى تأثير بأقل تكلفة ممكنة، وهي مهمة تتطلب وعيًا ومهارة، وشفافية ومسؤولية أخلاقية عالية.

إن «المنطقة الرمادية» ليست عيبًا بحد ذاتها، بل مساحة اختبار حقيقية لنضج أدوات التأثير، وقدرتها على بناء نفوذ ناعم مستدام بعيداً عن المزج غير المدروس الذي يشتت مجهودات القوة الناعمة بإغراقها أو إرباكها بقوة صلبة لا تستدعي الحاجة لها. ومن أمثلة ذلك: المبالغة في الإنفاق على مصدر قوة ناعمة معيّن، بشكلٍ يستفز المتلقي الخارجي ويفقده الثقة في الرسالة، أو يرسخ لديه - بشكل عكسي- صوراً نمطية غير مرغوبة.. فالتأثير والإقناع لا يتحققان بالميزانيات الضخمة ولا يُفرض بقوة الإعلام، بل يُبنيان تدريجيًا وببساطة، على قاعدة من الثقة، والصدق، والوعي بأن الجمهور العالمي لم يعد ساذجًا أو قابلًا للتلقين.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد