راشد الحمادي
في عالم يتغير بوتيرة غير مسبوقة، يبرز الذكاء الاصطناعي كأحد أهم الفاعلين الجدد في العلاقات الدولية. لم يعد هذا المجال حكراً على المختبرات وشركات التكنولوجيا، بل أصبح أداة جيوسياسية ترسم ملامح النفوذ، وتعيد تعريف مفهوم الدولة القوية. إن الذكاء الاصطناعي اليوم، بما يملكه من قدرة على معالجة البيانات واتخاذ القرار والتأثير في السلوك الجماعي، دخل صميم صناعة القرار الدولي، مهدداً بإزاحة مراكز قوى تقليدية، ومصعداً دولاً كانت خارج حسابات التوازن الكلاسيكي، وبات يقود دبلوماسية المستقبل.في هذا المشهد العالمي المتسارع، تبرز دولة الإمارات كحالة استثنائية في قدرتها على تحويل الذكاء الاصطناعي إلى رافعة استراتيجية. فبينما انشغلت قوى تقليدية بالمنافسة على الأرض والسلاح، كانت الإمارات تبني من داخلها بنية معرفية رقمية، لا تقل شأناً عن قواعدها العسكرية أو مواردها الاقتصادية. ومع إطلاق استراتيجية الإمارات للذكاء الاصطناعي 2031، أرست الدولة رؤية واضحة مفادها أن النفوذ المستقبلي سيُبنى بالعقول قبل العضلات، وبالخوارزميات قبل السلاح.الإمارات كانت أول دولة في العالم تعيّن وزيراً للذكاء الاصطناعي عام 2017، في خطوة لم تكن رمزية بقدر ما كانت إعلاناً مبكراً عن دخولها ميدان القوة الخوارزمية. منذ ذلك الحين، لم تتوقف الدولة عن ترسيخ موقعها في هذا المجال، سواء عبر تأسيس بنى تحتية رقمية متقدمة، أو من خلال احتضانها مراكز بحوث وشركات ناشئة متخصصة في الذكاء الاصطناعي، أو باستضافتها قمماً ومنتديات دولية تبحث أخلاقيات الاستخدام وتوحيد السياسات.لكن الأهم من البنية هو كيف تستخدم الإمارات هذه الأدوات في بناء دبلوماسية جديدة. لقد أدركت القيادة الإماراتية أن الذكاء الاصطناعي لا يُغيّر فقط آليات العمل الحكومي أو الخدمات، بل يعيد تعريف مفاهيم السيادة، والحياد، والتحالف، والتأثير. فالتقنيات التي تطورها الإمارات وتديرها، تُمكّنها من المساهمة في ملفات دولية كالأمن الغذائي، والرعاية الصحية العالمية، وحوكمة البيانات، مما يمنحها صوتاً مؤثراً في المحافل الدولية، لا يقوم على النفط أو الجغرافيا، بل على الثقة والمعرفة والبصيرة.وفي ظل غياب إطار قانوني عالمي صارم لتنظيم استخدام الذكاء الاصطناعي، تتصاعد المخاوف من فوضى تقنية قد تُستخدم لأغراض سيبرانية وتجسسية أو حتى عسكرية. وهنا تأتي مبادرات الإمارات كدعوة هادئة لبناء «ضمير رقمي عالمي»، يدعو إلى استخدام الذكاء الاصطناعي كقوة لصالح الإنسانية، لا ضدها.في النهاية، الذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة، بل حقل صراع ناعم، وأرض نفوذ جديدة. والإمارات، برؤيتها المبكرة، لا تكتفي بأن تكون راكبة في قطار المستقبل، بل تضع يدها على المقود، وتسهم في رسم اتجاهه.