لا يحمي السيادة إلا الشرعية، ولا يحمي اللبنانيين ويصون حقوقهم إلا الدولة القادرة على أن تكون المرجع لكل أطياف البلد وشرائحه، والدولة العادلة بأن تكون دولة القانون والحق والعدل. والتجربة اللبنانية غنية بالدروس والعِبر التي أثبتت في كل مرة أنَّ كلَّ سلاح خارج يد الدولة هو سلاح عدوان وابتزاز بالفتنة لفرض التسلط، والأخطر أنه سلاح يستدرج الاحتلال، وواقع الحال شهادة مدوية.
من أحداث عام 1958 إلى الحرب الأهلية، حوّل السلاح اللاشرعي أحياء المدن وساحات القرى والمنازل إلى حلبات اقتتال أودى بحياة نحو 150 ألفاً، ما فرض هجرات قسرية وتغييرات ديموغرافية. والسلاح الذي يتمسك به «حزب الله» اليوم، وتمسك به بعد التحرير منذ عام ألفين، كان الوسيلة لإضعاف الدولة وتفتيت المؤسسات وتطييفها، والسبيل لتسلط فئوي وقهر طال المفاهيم والبديهيات ونمط الحياة والتعليم والموسيقى. ولبنان الذي يعيش اليوم وجعاً وسع المدى مع غياب العبقرية الفذة زياد الرحباني، عرف منعاً طال حتى أغاني فيروز في مربعات الهيمنة المباشرة. ولأن هذا السلاح أداة لمشروع إقليمي، كان سلاح عدوان على الشعب السوري وشعوب المنطقة، ما عزل البلد وأورثه تاريخاً ثقيلاً من العداوات.
رغم كل ذلك عاد «حزب الله» المأزوم في توقيت موحى به، يتمسك بالسلاح، حتى لو انسحب العدو (...)، بعدما تنازل عنه في اتفاق وقف النار. عاد يحاول إحياء تحويل الأهالي إلى دروعٍ لمشاريعه المدمرة، غير آبه بمخطط المحتل توسيع الحزام الأمني، وغير آبه بمصير الناس، ولا سيما عشرات الألوف المحاصرين بتهجير طويل، وغير مهتم بمصير شبانٍ يصطادهم العدو الإسرائيلي كلما أراد وتهمتهم أنهم من عناصره. ولافت أن هذه العودة حملت تجاهل أصحابها حجم الهزيمة اللبنانية، وحجم الانقلاب الجيوسياسي في المنطقة والهزيمة المدوية للنظام الإيراني، فذهب «حزب الله» إلى رفض الورقة الأميركية رغم تعثر تنفيذ اتفاق وقف النار وتعثر تطبيق القرار الدولي 1701.
وفي معاندة لمجرى الأحداث في لبنان والمحيط، رفع شعار المطالبة بحوار لاحقٍ حول استراتيجية دفاعية، تحفظ له سلاحه، قافزاً فوق كارثة حرب الإسناد وتداعياتها المستمرة. وبين أبرز الذرائع التي راح «الحزب» يقدمها أن للسلاح مهمة «صدِّ خطر وجودي»، و«هو مصدر حماية» إلى الإعلان بأن «المقاومة» شكلت «العنوان الأبرز في النهوض السياسي النوعي للشيعة»!
إنه اللامنطق الذي يقوم على رفض استعادة الدولة مكانتها وهيبتها ودورها، وهو منطق تفتيتي خطير يتجاهل أبسط دروس حرب «الإسناد» يوم شكل تعاضد اللبنانيين درعاً احتضن وحمى أكثر من مليون مهجر قسراً، بعدما عجز السلاح اللاشرعي لـ«الحزب» عن توفير الحماية، فتدمرت البلدات وأزيلت عن الخريطة، وطال الحريق جني أعمار الناس، الذين دفعوا قسراً حياة الألوف ثمناً لمغامرة ارتبطت بالمشروع الإقليمي الإيراني... لكن هناك حقيقة، هي أن السلاح باسم الشيعة المغلوب على أمرهم، أمن تسلط «الثنائي الشيعي»!
لا يستطيع لبنان الرسمي أن يغطي القلق من صدمة فشل مهمة الموفد الأميركي توم برّاك، التي نتجت عن تذاكٍ على الطريقة اللبنانية وتماهٍ مع طروحات «حزب الله»، بالحديث عن السلاح جنوب الليطاني وشماله، والخطوة مقابل خطوة، ومن يبدأ أولاً ثم الحوار الداخلي إلى آخر المعزوفة... ولا تستطيع السلطة تجاهل أبعاد عدم تحديد الموفد الأميركي أي موعد لزيارة رابعة.
واليوم مع تعنت «الحزب» الذي قال: «لن ننخدع بشعار حصرية السلاح الذي لا يعني المقاومة»، فلا بد للسلطة أن تخرج من حالة الإنكار وتتوقف ملياً عند إعلان الموفد الرئاسي الأميركي: «إن مصداقية الحكومة اللبنانية تعتمد على قدرتها على التوفيق بين المبادئ والممارسات... من الضروري أن يكون احتكار السلاح بيد الدولة فقط، وما دام (حزب الله) يحتفظ بسلاحه، فإن التصريحات وحدها لا تكفي»!
عشية شهر التجديد لقوات «اليونيفيل»، وليس سراً وجود اتجاه أميركي لتعديل مهامها بحيث تصبح شيئاً من قوة تدخل، وهذا أمر يصب في خدمة المصلحة الوطنية، ومع تزايد الأخطار من أكثر من اتجاه، بدأت تظهر معالم قلق المسؤولين عن تراجع الثقة الخارجية بالأداء الرسمي: تراجع أميركي وتراجع أوروبي، رغم الحفاوة الاستثنائية في استقبال رئيس الحكومة نواف سلام، وتراجع خليجي ولا سيما من جانب السعودية، ليضع كل ذلك مصير لبنان على المحك، مع مؤشرات عن مضي تل أبيب بالتدمير الممنهج للبلد تحت عنوان القضاء على أي تهديد مستقبلي لها!
إن قراءة متأنية للأداء الرسمي تفضي إلى أن هناك نوعاً من قبول استعصاء تحول لبنان إلى دولة طبيعية تحتكر السلاح وتمسك بالأمن وتتحمل مسؤولية قرار البلد. والخطير أن ذلك يوجه رسالة للخارج بأن الموقف الرسمي يقدم البندقية اللاشرعية على حق اللبنانيين بالاستقرار والأمن المستدام، ومعروف أنه من دون الدعم الخارجي لا قيامة للبلد المنهوب والموجوع. ما هو حاصل من تردد في موضوع جمع السلاح، وهنا لا أحد يقلل من الأهمية والخطورة، فإن هذا التردد يطال مستقبل البلد. لا تستعاد الدولة على قاعدة الإنكار، وبقاء السلاح اللاشرعي يعطل السيادة ويبقي قرار الحرب والسلم خارج المؤسسات، ويهدد الوحدة الداخلية الهشة، والزمن يشهد تهاوياً متسارعاً في الثقة الشعبية ويضع لبنان في مهب خيارات قاتلة مدمرة.