علي الخزيم
تحت هذا العنوان تطرقت (في جزئه الأول) لما يَهمِس به بخور العود المتصاعد من المِبخَرة بالمجالس ليُذكّرنا بأن هُنيهات الصفاء والسرور يمكن أن تدوم مَدى الحياة؛ وتحفظها الأجيال عن الآباء والأجداد كنبراس يستضاء به لديمومة العلاقات الأسرية الاجتماعية، ولتهذيب النفوس التي قد يطالها صدأ فتور التَّواد والمحبة؛ وتنافر النفوس نتيجة لشوائب تترسب بشغاف قلوب سَمَح أصحابها بولوجها لثنايا وطبقات حواسهم إمَّا لقلة تجاربهم أو لسطوة روابط لم تكن جيدة بمؤثرين لا يراعون حقوق الصداقة والقرابة، لأنهم انغمسوا مِن قَبْل في وحل المُكدِّرات والمُنغّصات الاجتماعية.
= الرمزية التي يُمَثِّلها بخور العود بمجالسنا هي رسالة لكل لبيب يلتقط المعنى المراد ويُحِيله إلى مُمارسة فِعلِية مُهذّبة ترفع قيمته أمام الآخرين، وليكون دومًا قدوة لغيره؛ إذ إن مكارم الأخلاق مِمَّا يكتسب بالتربية والتعود؛ وما تلتقطه وتختزنه أفهام ذوي النُّهَى النَّيّرة الحاذقة من التجارب والمواقف العابرة ومِن منقول قَصَص وعِبَر السابقين، فذو العقل الراجح يستنسخ الكلمة والصورة أمامه ثم يحللها للأفضل ويطور الفكرة ليسمو بها، ويحلق بمعانيها ومدلولاتها عاليًا؛ وبهذا ترتقي المجتمعات الفاضلة؛ وأزعم أن البخور ينبهنا دومًا لهذا السلوك.
= الأنفس الكبيرة والعقول الراسخة تُثمّن عاليًا معاني الوفاء للأهل والأصحاب؛ وتدرك القِيَم الرائعة لحسن التعامل وديمومته؛ فليس من النُّبل ولا من رفيع السجايا أن نتعامل بأدب وتهذيب بمجالسنا فإذا ما افترقنا ننسَى تلكم الروابط الحميمية؛ ولا نتذكر بعضنا سوى بمجالس العزاء أو أن تُجبرنا مناسبة عائلية على لقاء نحشد له عبارات المجاملات المُكررة المُمِلة، وكأننا نَتحيّن لحظة المغادرة لننفك من وقع ذاك الموقف الذي أخضعنا لأدوار تمثيلية لا نُتقِنها جُملة وتفصيلًا؛ أزعم كَرَّة ثانية أن بخور العود بسُمُوّه وتألقه يُنبهنا بأننا نخطئ الحسابات بعلاقاتنا أحيانًا.
= فحديث البخور بين الناس كحديثهم بِذِكرك الحَسَن إن كنت بسيرتك أهلاً لهذا، لا يذكرونك إلّا بكل خير، وإن بَعدت عنهم عقب رفقة عمل أو سفر أو حالات مشابهة سيذكرون لطف تعاملك معهم؛ وابتسامتك التلقائية غير المتكلفة؛ وكلماتك وعباراتك اللينة الرقيقة، فتكون قد بَنَيت لذاتك رصيدًا من الحب والألفة يبقى في ذاكرة الجميع، وللمزيد كُن كالنسمة الرقيقة والغيمة العابرة، فكلما كان مُرورك لطيفًا وقلبك حليمًا: يطيب صيتك بين الأنام كطيب البخور الهامس بآذانهم قائلًا:(ألا تجدوني لطيفًا كرفيقكم وزميلكم وصديقكم فلانًا؟ فإني أقتبس من عاطر ذِكْره وأخلاقه ما ينبعث من زَكِي طيبي إليكم الآن، وإنه لَطَيِّب يستحق الثناء الجميل)!
= ويُلِحّ بخور العود بتذكيرنا - هَمسًا مُهذّبًا بآذاننا - ليَبْلغ النّصح مَبلَغه، ويُسمِعنا مَا نُقل عن ابن المُقَفّع:(المودَّةُ بين الأخيار سريعٌ اتّصالُها بطيءٌ انقطاعُها، ومثَلُ ذلك مثَلُ كُوبِ الذَّهب بطيءُ الانكسارِ هيّنُ الإصلاح، والمودَّةُ بين الأشرار سريعٌ انقطاعُها بطيءٌ اتّصالُها؛ كالكوزِ من الفَخَّارِ يكْسِرُهُ أدنى عبثٍ ثمَّ لا وَصْلَ له أبدًا)! دخان العود يتصاعد بيننا بأنَفَة وشُمُوخ كقدوة؛ ومُذكّر للغافلين ليناجوا ذواتهم ويحاوروها وصولًا للأفضل؛ ولعل إشاراته لا تذهب بلا فائدة تُذْكَر، فغَيمات البخور المُعطّرة لم تكن لتخادعنا وتُلَبِّس علينا؛ فمرحبًا بالعود الأزرق وأريجه!