في خضمّ اهتزازات الشرق الأوسط يتساءل المرء مجدّداً: إلى أين لبنان؟ هل تستمرالصيغة اللبنانية وهي النظام السياسي الأقدم في المنطقة؛ إذ تدخل الآن عامها الـ164، أم تنهار هذه الفيدرالية المجتمعية الضامنة وحدة الأرض، التي قام عليها الكيان اللبناني الأول عام 1861، ثم كيان «لبنان الكبير» عام 1920، والتي اجتازت حتى الآن من دون تصدّع أخطر الحروب والأزمات؟
لا شكّ في أن المنطقة ولبنان هما اليوم على مفترق طرق كبير. ويعود التساؤل: إلى أي حدّ استطاعت الصيغة اللبنانية خلال أكثر من قرن ونصف القرن توحيد الجماعات المنضوية فيها، في بوتقة وطنية واحدة؟ لا بد من الاستنتاج أنه لا الصيغة اللبنانية ولا سائر الأنظمة السياسية في المشرق التي تلت سقوط السلطنة العثمانية عام 1918، استطاعت الانتقال من مجتمع الجماعات إلى مجتمع الأفراد المواطنين في بوتقة الدولة. بدلاً من ذلك، نشاهد اليوم في القرن الحادي والعشرين، كيف قويت شوكة الجماعات الطائفية والمذهبية والإثنية والعشائرية والمناطقية، وبرزت نزاعاتها في كل مكان. في عودة إلى «بلاد الأرز»، لا شكّ في أن صيغتها المتوازنة، وإن لم تفكّك الجماعات، فهي لم تتح بروز ديكتاتوريات فئوية، تهيمن فيها جماعة ما هيمنة مطلقة على سواها، ضمن دينامية الساحق والمسحوق، الذي يتوق بدوره أن يصبح ساحقاً. وهكذا دواليك. مثلما شهدته المنطقة ولا تزال.
لكن طبيعة المشروع اللبناني الهادف إلى الإفلات من سطوة المحيط نحو أفق مختلف، ومساحة الحرية التي توافرت فيه، جعلتا تاريخ الكيان اللبناني من البداية إلى اليوم محكوماً بالتناقض الرئيسي التالي: المواجهة الدائمة بين المشروع اللبناني المتّجه إلى الإفلات من نظام المحيط نحو الانفتاح والحداثة وأولوية العلم والتفاعل والحريات ونوعية الحياة البشرية، والمشروع الإقليمي في لبنان الهادف إلى إعادة دمجه في أنظمة المحيط، التي طالما كانت أحاديّة واستبداديّة.
إن بقاء جذوة الحركة اللبنانية حيّة على الدوام في الداخل، وما قدمته على مرّ الزمن من تضحيات جسام وعشرات آلاف الشهداء، وما أسهم فيه المهاجرون اللبنانيون في أنحاء العالم من دعم ثمين في جميع الأوقات الصعبة، أتاح للمشروع اللبناني الصمود والاستمرار حتى اليوم، مستفيداً من التحولات الإقليمية والدولية الكبرى، التي لا يد له فيها، ولا قدرة له على صنعها أو منعها، والتي صبّت كلّ مرّة في مصلحته، عام 1861، وعام 1918، وعام 2005، وعام 2024. هكذا استطاع لبنان، في مهبّ العواصف، الحفاظ على كيانه ووحدته، في وجه المشاريع الإقليمية، العثمانية، والوحدوية السورية المختلفة، والمشروع الماركسي الأممي، والمشاريع الوحدوية البعثية والناصرية، وأخيراً المشروع الإسلامي الإيراني. والآن إلى أين؟
لا شك في أن المشروع الإقليمي الإيراني، بين جميع المشاريع الإقليمية السابقة، كان هو الأخطر والأشدّ وطأةً على المشروع اللبناني. فعلى مدى 43 عاماً من التنظيم والتمويل والتسليح والدعوة «الجهادية» الدينية، استطاع هذا المشروع أن يبني فوق أرض الجماعة المنتمية إليه، من حدود سوريا إلى حدود فلسطين، دولة رديفة داخل دولة «لبنان الكبير»، أكثر قوة منها. واستطاع التسرب إلى جميع مفاصل دولة «لبنان الكبير» بهدف الهيمنة التامة عليها. واستطاع الانتشار سراً، تنظيمياً وعسكرياً وأمنياً، في جميع مناطقها. واستطاع، للمرّة الأولى في التاريخ، بفعل إغراءات المصالح والمكاسب، أن يجذب إليه مجموعة مهمة من مؤيدي المشروع اللبناني نفسه.
صحيح أن المشروع الإيراني تلقى أخيراً ضربات موجعة في لبنان وسوريا وإيران والإقليم، لكنّه ما زال قادراً على الضغط بشدة على المشروع اللبناني. في زمن يكثر فيه الهمس عن «مخطّطات التقسيم» في المنطقة، لا بدّ من الإضاءة على المؤشرات التالية في الواقع اللبناني:
يجدر التذكير بأن الكيان اللبناني والصيغة اللبنانية خرجا عام 1861 من رحم التقسيم، المتمثل بنظام القائمقاميتين، برعاية دولية فعّالة.
وتجدر الإشارة أيضاً إلى أن التقسيميين الحقيقيين اليوم ليسوا مؤيدي الفيدرالية والكونفيدرالية، الذين لا يملكون غير الدعوة، ودعوتهم توحيدية وليست تقسيمية. التقسيميون الحقيقيون هم الذين بنوا دولة المشروع الإقليمي الإيراني داخل «لبنان الكبير».
من المستحيل استمرار لبنان بدولتين وجيشين، متناقضين آيديولوجياً ووجودياً. ورفض المحور الإيراني تسليم سلاحه للدولة اللبنانية وتفكيك بنيته العسكرية، يضع «بلاد الأرز» أمام مخاطر كبرى. من المفهوم تماماً ألا تقدم الدولة على نزع هذا السلاح بالقوة، لأن البلاد لا يمكن أن تتحمّل مثل هذا الصدام. وعلى الرغم من تمسّك غالبية اللبنانيين العظمى بوحدة لبنان، بمن فيهم دعاة الفيدرالية والكونفدرالية، فالخشية كبيرة من أن يتحوّل واقع الدولتين المتناقضتين فوق الأرض اللبنانية، إلى واقع تقسيمي، جاهز للتكريس، في مهبّ تحولات الشرق الأوسط.