في الظاهرة الرحبانية، الثقافية والموسيقية، هناك شاعر لبناني عمودي تفعيلي له حضوره الأدبي اللبناني والعربي في كل مناسبة رفيعة المستوى ل«ديوان العرب»، هو الشاعر جوزيف حرب، أحد أعمدة ثقافة الغناء الرحباني، وهو أيضاً شاعر الأغنية الفيروزية الجديدة في تاريخها المسرحي والموسيقي العريق حين كتب «سوارة العروس»، و«لمّا على الباب»، و«أسامينا» وغيرها من شعره الشعبي اللبناني «الفصيح».التقط زياد الرحباني هذه الشعرية الشفافة من روح جوزيف حرب، وعرف بذكائه الحادّ أن حنجرة والدته فيروز كما لو كانت بانتظار هذا الشكل الغنائي المركب من اللغة المختلفة عن التقاليد المحدّدة التي وضعها عاصي الرحباني لامرأة أصبحت «سفيرة لبنان إلى النجوم»، أو «صاحبة الصوت الملائكي»، أو غير ذلك من ألقاب هي أقل بلاغة من صوت السيدة الواقفة دائماً في كينونتها العبقرية من دون أن نسمع صوتها الطبيعي العادي، وكل ما سمعناه إلى الآن هو صوت فيروز المغنية على المسرح.زياد ابنها المتمرّد، الساخر، الخارج على أي ثوابت ثقافية أو فكرية، ورغم كل هذه الحيثيات التي صنعتها الصحافة حوله، لم يغيّر فيروز كما يقال حتى هذه اللحظة في سرديات الوداع والغياب، بل هي الأم الصامتة الحنون، من نبشت عن منجم الألماس في أرض ابنها العبثي حتى الجنون وذلك حين قبلت أن تضحك وتمزح كما يريد هو على المسرح، فحوّلت بذلك لغته الأرضية تماماً إلى غناء أحببناه نحن لأنه جاء مولوداً من فم فيروز.غنّت من ألحان زياد وكلماته مغنّيات عربيات، ولكن الآن، لا أحد يستعيد أو يعرف هذه التجربة الغنائية العربية لزياد. فقط فيروز هي من أطلقت جنون ابنها إلى الحياة والغناء، واستوعبت طفوليته وفطريته وتمرّده، وصنعت لها وله مرحلة جديدة في الظاهرة الرحبانية، فيما بقيت كل الأصوات الأخرى التي غَنّت ألحان وكلمات زياد في الهامش.غير أن حركة واحدة أو صوتاً صغيراً واحداً من فم فيروز لا يُنسى، ولو أنها، مرة ثانية، ليست مسموعة أو حتى معروفة كفيروز الإنسانة المتكلمة، بل كل ما نعرفه، فقط، صوتها وهي تغني، أو وهي تغسل أرواحنا بهدوئها المطلق، وانسحابها الصّوفي إلى ذاتها المضمرة.الآن، كبر حزن المرأة النحيلة الخفيفة مثل رنة العود. أصبح حزناً في التسعين من العمر قبل أيام في إحدى كنائس بيروت، حاولت المرأة تغطية أمومتها المجروحة بنظارة وثياب سوداء جالسة على مقعد أمام نعش رجل كان يصغرها بنحو عشرين عاماً فقط. رجل كان يسخر من كل عقائده الأيديولوجية، ولم يصدقه أحد، ولم يأخذه أحد على محمل الجد عندما انضم إلى حزب على اليسار، وأحب حزباً آخر على اليمين.ضحك زياد على كل هؤلاء. لم ينتمِ إلى ملاك ولم ينتمِ إلى شيطان. والآخرون صدّقوه، ووظفوه، وجيّروه، لكنه هو من استعملهم، وحين رحل رماهم كلّهم وراء ظهره.
رماهم كلهم وراء ظهره
مواضيع ذات صلة