لم تكن أحداث السويداء الأخيرة مجرد اشتباكات طائفية بين عناصر متفلتة أو راديكالية أو عشائرية، وبين أبناء جبل الدروز، بل كانت نافذة كاشفة عن عمق الأزمة البنيوية التي تعصف بسوريا ما بعد نظام الأسد غير المأسوف عليه. فقد كشفت هذه المواجهات عن أن المناخ العام في سوريا الجديدة، الذي كان يُفترَض أن يكون قد تخلص من أوزار وإرث الطائفية، ما زال يعاني في الذهاب إلى «فضيلة الاستقرار» بصيغة تشاركية موحّدة، وصياغة هوية جامعة تتجاوز منطق الميليشيات والولاءات الضيقة. وهنا يبرز سؤال جوهري: هل يمكن لسوريا أن تنهض كدولة موحدة وقوية من دون توافق داخلي حقيقي؟ أم أن الحاجة باتت ضرورية إلى مشروع مصالحة عميقة برعاية عربية، ربما بقيادة سعودية، ليكون بمثابة «طائف جديد» يقطع الطريق على التدخلات الإقليمية والدولية المنحازة والطامعة، وعلى رأسها التدخل الإسرائيلي ومن ينافسه من الدول التي لديها مشاريع شمولية؟
إن الموقف الخليجي، والسعودي بشكل خاص في هذه المرحلة، يقوم على قاعدة واضحة: لا استقرار في المشرق العربي من دون سوريا موحدة، قوية ومتعافية من أمراض الطائفية والانفصالية والتطرف بكل أنواعه وأشكاله. لكن هذه الرؤية تواجه تحديين بارزَين؛ أولهما غياب التوافق السوري الداخلي الذي يسمح بإعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس مدنية جامعة، وثانيهما التدخلات الإقليمية والدولية التي تستثمر في الانقسامات وتعيد إنتاجها، من إسرائيل بحساباتها الأمنية، إلى تركيا ومعضلتها في الشمال، وإيران بميليشياتها التي ما زالت طامعة بالعودة، وكان من آخرها التقارير المقلقة التي صدرت عن مراكز البحث وخزانات التفكير حول تنظيم «أولي البأس» وهو تنظيم شبه عسكري دعائي مرتبط بإيران، يسعى إلى تأسيس كيان سياسي مسلح جديد معارض للحكومة في سوريا.
لقد كشفت أحداث السويداء عن هشاشة العقد الاجتماعي بين المكونات السورية، حيث دفعت الهجمات المشحونة إلى انفجار دموي واسع النطاق، ثم ردود انتقامية متبادلة، برزت معها استغلال إسرائيل لفرض معادلات أمنية مؤلمة، عبر ضربات جوية مباشرة في قلب دمشق، ما يطرح سؤال وأولوية السيادة السورية مجدداً.
غير أن ما هو أخطر من المواجهات المسلحة ذاتها يتمثل في الخطاب الطائفي والتكفيري الذي يغذي هذه المواجهات ويمنحها شرعيةً سياسيةً ومعنويةً خاطئةً وخطرةً. فالأسلحة مهما كانت فوضويةً تبقى ظاهرة يمكن محاصرتها سياسياً وأمنياً، لكن الخطر الحقيقي يكمن في ثقافة التحريض التي تتغلغل عبر المنابر والإعلام ووسائل التواصل، فتخلق بيئةً تجعل أي تجاوز مسلح مُبرَّراً. ولذلك فإن أي مشروع لإعادة بناء سوريا يبدأ أولاً بمواجهة هذا الخطاب، لأن السلاح هو النتيجة، أما السبب فهو هذه الثقافة التي تمنع أي مشروع وطني من استعادة المبادرة.
وسط هذا المشهد يطرح كثيرون سؤالاً متكرراً: هل يمكن لسوريا أن تتجاوز محنتها من دون مشروع مصالحة شامل، أم أن الأمر يحتاج إلى اتفاق عربي جامع على غرار «اتفاق الطائف» الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية؟ مثل هذا المشروع، إذا ما وُجدت الإرادة له، فيمكن أن يقطع الطريق على التدخلات الانتقائية من إسرائيل وتركيا وإيران، ويؤسس لعقد اجتماعي واضح يضمن حقوق الأقليات، ويحدد ملامح دولة لا مركزية متماسكة، ويعيد الاعتبار لسيادة الدولة، ويتيح ضبط السلاح وإخراج المقاتلين الأجانب. غير أن نجاحه سيبقى مرهوناً بوجود إرادة سورية داخلية تستوعب أن الوحدة الوطنية ليست ترفاً، بل ضرورة للنجاة.
جذور الأزمة لا تخص أبناء جبل الدروز وحدهم، فعدم الشعور بالأمان في ظل غياب ضمانات دستورية، إضافة إلى نسيج بعض القوات المحسوبة على الحكومة، هما ما سبَّبا ارتباكاً لدى الدول الغربية والولايات المتحدة، التي تتعامل بثنائية «الضغط والحوافز» أكثر من الإيمان بسوريا جديدة موحدة تشمل السوريين كلهم.
إن ما يجري في سوريا اليوم ليس مجرد انتقال سياسي بعد عقود من حكم الأسد، بل معركة حول شكل الدولة ومضمونها. فالسعودية ودول الاعتدال تدرك أن دعم سوريا الموحدة ليس مصلحةً سوريةً فحسب، بل مصلحة عربية استراتيجية، خصوصاً أن التحدي هو بناء شرعية الداخل، والتوافق المجتمعي، وليس مجرد إقناع القوى الغربية التي تريد التخلص من صداع الملف السوري، على عكس حرص الرياض على شراكة مستدامة مع سوريا والذي قد يصطدم بحقيقة أن القرار النهائي سيبقى سورياً مهما حاول الجميع، وأن التسوية الدائمة لن تتحقَّق إلا إذا اقتنع السوريون أولاً بأن وحدة دولتهم هي خط الدفاع الأخير أمام التشرذم والتبعية للخارج، والنهوض مجدداً بعد انكسارات طال أمدها.