أحمد مصطفى
شهدت الولايات المتحدة في الأيام الأخيرة تغيراً مناخياً قاسياً أضر بملايين البشر، ليس في ولايات الاحترار التلقيدية مثل أريزونا فقط، وإنما في أغلب الولايات خاصة الشمال الشرقي. والسبب هو ما يصفه خبراء المناخ والطقس بأنه «القبة الحرارية» التي تحركت من وسط أمريكا إلى الشرق، فجعلت الجو في نيويورك مثلاً لا يطاق مع زيادة الحرارة والرطوبة بما شكّل خطراً على أكثر من مئة مليون من السكان.القبة الحرارية ظاهرة مناخية، تحدث حين يحتبس الهواء الساخن فوق منطقة معينة نتيجة ضغط جوي عالٍ مستمر. ومع قلة السحب فوق تلك المنطقة نتيجة الضغط الجوي أيضاً تصل أشعة الشمس مباشرة إلى الأرض لما يزيد من درجة حرارتها أكثر. مع أن تلك الظاهرة تحدث فوق مناطق أمريكية وغيرها في العالم، إلا أن هذه الأخيرة قبل أيام كانت غير مسبوقة في شدتها. في الوقت الذي يفاخر فيه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بمشروع «القبة الذهبية» من صواريخ أرض جو دفاعية، جاءت القبة الحرارية ليهتم بها ملايين الأمريكيين أكثر من اهتمامهم بقبته الدفاعية. لعل التساؤل المنطقي هنا هو ما علاقة الرئيس ترامب بالقبة الحرارية؟ أتصور أن هناك علاقة مهمة جداً لا يمكن إغفالها. فضلاً عن أن الرئيس ترامب، ومن قبل ولايته الأولى، ممن يعتبرون مسألة التغيرات المناخية غير حقيقية، فإن سياساته في فترة رئاسته الثانية الحالية تدفع نحو المزيد من ارتفاع درجة حرارة الأرض. مبدئياً، يعارض ترامب تماماً أي جهود لمكافحة الاحتباس الحراري، وقامت إدارته بالفعل بإلغاء كل التشريعات والإجراءات لإدارة جو بايدن السابقة التي تشجع على سياسات مكافحة التغيرات المناخية بتقليل الانبعاثات. بشكل مباشر، تدفع إدارة ترامب إلى زيادة إنتاج الطاقة من الوقود الأحفوري، وبالفعل منحت تراخيص وأراضي فيدرالية لشركات الطاقة الكبرى. إضافة إلى إلغاء حظر التنقيب والاستكشاف في المناطق التي تعتبر محميات طبيعية، وهي التي تحافظ على التوازن البيئي بما يضمن عدم الإضرار بالمناخ عامة. هذا في ما يتعلق بعلاقة ترامب وسياساته المباشرة بالتغيرات المناخية والتراجع تماماً عن مكافحة الاحتباس الحراري. أما بشكل غير مباشر، فأغلب سياسات إدارة ترامب الحالية تدفع باتجاه كارثة بيئية قادمة لا محالة، ليس فقط نتيجة زيادة معدلات الانبعاثات من الاقتصاد الأمريكي ولكن أيضاً بشكل غير مباشر نتيجة سياسة فرض التعرفة الجمركية واضطراب التجارة العالمية وسلاسل الإمداد والتوريد التقليدية. لكن الأهم هو ما أعلنته إدارة ترامب قبل أيام من قرارات تخص صناعة الذكاء الاصطناعي وجعلها أولوية اقتصادية لأمريكا في تنافسها مع الصين خشية أن ترسخ الأخيرة تفوقها فيها على أمريكا. ربما يتصور بعضهم أن تطور الذكاء الاصطناعي، بما هو مأمول في أن يحل كثيراً من المشاكل التي قد تستعصي على البشر، ربما يساعد على مكافحة التغيرات المناخية بطرق أكثر ابتكاراً تُجنب كوكب الأرض كوارث طبيعية. إنما الواقع أن تطور الذكاء الاصطناعي خلال السنوات القليلة المقبلة يمكن أن يصحبه زيادة معدلات الكوارث الطبيعية، وليس فقط من قبيل القبة الحرارية وأمثالها. فمراكز البيانات الهائلة التي يتم بناؤها لتعمل عليها برامج الذكاء الاصطناعي تحتاج إلى كميات هائلة من الطاقة يمكن أن «تشفط» أغلب ما ينتجه العالم حالياً وتتطلب أضعافه. لا شك أن توليد تلك الطاقة لن يكون ممكناً من خلال المصادر المتجددة قليلة الانبعاثات الكربونية، بل قد تحتاج إلى حرق ما هو أكثر انبعاثات من النفط والغاز، أي العودة إلى محطات توليد الطاقة التي تعمل بالفحم. وبالفعل بعدما كانت أغلب تلك المحطات مغلقة، استعداداً لإخراجها من الخدمة، عادت بعض الدول لتشغيلها مجدداً، وزاد استخدام الفحم في توليد الطاقة. لا يقتصر الأمر على استهلاك الطاقة بمعدلات غير مسبوقة، بما يؤثر في المتوفر منها لبقية قطاعات الاقتصاد وللاستهلاك الشخصي للأسر. بل إن تطور الذكاء الاصطناعي ليصبح قادراً على تعديل نفسه بنفسه دون حاجة إلى البشر سيعني صراعاً بين برامجه والبشر يدور حول أمرين: الطاقة والأرض ومواردها. هذا ما خلص إليه ملف متكامل حول ذلك القطاع نشرته مجلة «الإيكونوميست» في عددها الأخير.من أهم موارد الأرض التي سيؤثر فيها قطاع الذكاء الاصطناعي بعد الطاقة هو المياه. ففي الوقت الذي تعانيه البشرية بالفعل من نقص في المياه لتكفي سكان كوكب الأرض قد يؤدي دخول تلك الصناعة على خط استهلاكها إلى أزمات أعمق. بغض النظر عن الموقف منه ومن سياساته، فإن الرئيس الأمريكي ترامب يُحدِث بالفعل تغييراً جذرياً في العالم وليس فقط في الولايات المتحدة. وإذا كانت بعض السياسات والإجراءات يمكن أن تتغير مع توالي الإدارات على البيت الأبيض، إلا أن ما يجري الآن ستكون له تبعات متوسطة وبعيدة المدى. من تلك التبعات بالطبع ما يتعلق بالبيئة والتغيرات المناخية. وهناك توجه الآن، يقوده اليمين السياسي المتطرف الصاعد في أغلب الدول الغربية نحو التخلي تماماً عن سياسات مكافحة التغير المناخي. في حال استمرار الوضع على ما هو عليه الآن، فإن القبة الحرارية التي ضربت الولايات المتحدة مؤخراً سكون مجرد حلقة في تصاعد ظواهر مناخية وربما كوارث طبيعية أشد قوة تضرب الأرض وسكانها.