تمتلك جمهورية العراق ثروات طبيعية هائلة، خصوصاً في قطاعي النفط والغاز، لكنها تواجه تحدياً كبيراً يتمثل في غياب إطار قانوني شامل ينظم هذا القطاع الحيوي. هذا الفراغ التشريعي فتح الباب أمام اجتهادات متباينة في إدارة هذه الثروات، خاصة في إقليم كردستان الذي يُعد نتاجاً دستورياً للتصويت في انتخابات عام 2005، حيث عبّر العراقيون عن تطلعاتهم نحو دولة تحترم التعددية وتؤمن بوحدة الوطن رغم تنوع قومياته ومذاهبه وآرائه (دستور العراق، المادة 117، 2005).
لقد تأسس إقليم كردستان كمادة دستورية راسخة، جاءت نتيجة نضال طويل وتضحيات جسام قدمها الشهداء. هذه المادة حفظت حقوق الإقليم وصانت في الوقت نفسه السيادة العراقية، مما يجعل من غير المنطقي تجاهل وجود الإقليم أو اعتبار أي إجراء يتخذه مخالفاً للقانون والسيادة الوطنية لمجرد أنه لا يتواءم مع توجهات الحكومة الاتحادية.
إن العقود التي وقعها إقليم كردستان في مجال النفط والغاز تمثل في جوهرها فرصاً استراتيجية للتنمية والازدهار، ليس فقط للإقليم بل للعراق بأكمله. ففي عام 2023، صدّر الإقليم أكثر من 450 ألف برميل يومياً، ما ساهم في تعزيز الإنتاج الوطني وتوفير الطاقة (وزارة الثروات الطبيعية في إقليم كردستان، 2023).
لا ينبغي أن تتحول هذه القضية إلى قضية للصراع السياسي، بل يجب النظر إليها من منظور اقتصادي وتنموي، باعتبارها جهوداً يبذلها جزء أصيل من العراق للنهوض بواقعه والوقوف على قدميه، كما فعل في السنوات السابقة بنجاح ملحوظ. فمدن أربيل ودهوك تقف اليوم شاهداً حياً على إمكانية تحقيق التطور والازدهار في ظل ظروف إقليمية معقدة (UN-Habitat، 2022).
من الخطأ الفادح التعامل مع إقليم كردستان كجسم غريب عن العراق. بل على العكس، ينبغي المحافظة عليه والاستفادة من تجاربه التنموية لتطبيقها في المحافظات الأخرى. فبإمكان البصرة والعمارة والأنبار وسائر المحافظات أن تستلهم من هذه التجربة لتحقيق نهضتها الخاصة.
لقد عانى الشعب العراقي بكل أطيافه من ويلات كثيرة، وهذا التنوع المذهبي والقومي والثقافي يشكل ثروة حقيقية للعراق. والاختلاف في الآراء والسياسات والتوجهات ينبغي أن يكون عاملاً مساعداً للبناء والتطور، لا سبباً للشك والانقسام.
تُمثل تجربة إقليم كردستان في إدارة موارده ظاهرة استثنائية تستحق الدراسة والتحليل في المشهد السياسي العراقي والإقليمي. فبينما غرقت مناطق عديدة من العراق في دوامة من العنف والفوضى، استطاع الإقليم تحقيق استقرار نسبي (البنك الدولي، تقرير الرصد الاقتصادي، 2023)، وإرساء نموذج إداري متميز، اعتمد على الانفتاح الاقتصادي وجذب الاستثمارات الأجنبية وتطوير البنى التحتية بوتيرة متسارعة.
لقد نجحت قيادة الإقليم في تحويل التحديات إلى فرص، وحولت الفراغ القانوني في قطاع النفط والغاز إلى حافز للتنمية المستدامة. فبدلاً من الانتظار لحل الخلافات مع بغداد، اتخذت خطوات جريئة لتأمين مصادر الطاقة وتنويع الاقتصاد، مما أدى إلى خلق آلاف فرص العمل وتحسين مستوى المعيشة للسكان (وزارة التخطيط في حكومة إقليم كردستان، 2023).
علاوة على ما سبق، نجح الإقليم في إرساء شبكة من العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية المتوازنة مع الدول المجاورة والقوى العالمية، مما أسهم في تدعيم أركان الدولة العراقية متخطياً الأطر التقليدية للسياسة الخارجية المركزية. هذه الاستراتيجية أتاحت لكردستان تبوؤ مكانة إقليمية مرموقة، وأكسبتها تقديراً دولياً ملحوظاً (RAND Corporation، 2022؛ وزارة الخارجية الألمانية، 2021)، وعززت قدراتها على المناورة السياسية في ظل مشهد إقليمي يتسم بالتقلب والتعقيد.
إن المرونة السياسية التي أظهرتها قيادة الإقليم في التعامل مع الأزمات المتتالية، سواء مع الحكومة الاتحادية أو التحديات الأمنية الإقليمية، شكلت عاملاً حاسماً في صمود تجربة كردستان. والأهم من ذلك، أن الإقليم قدم نموذجاً يثبت أن اللامركزية الإدارية والاقتصادية ليست تهديداً للوحدة الوطنية، بل يمكن أن تكون عاملاً مساعداً للتنمية والاستقرار إذا ما تم تطبيقها بشكل صحيح (مؤسسة بروكنغز، 2022).
إن مفهوم السيادة، بكل ما يحمله من معانٍ عظيمة، لا يمكن أن يتحقق على أرض الواقع دون توافر حسن النوايا لتفعيله والحفاظ عليه. وفي العراق اليوم، هناك قادة عاصروا مراحل مختلفة من تاريخ البلاد، ويحملون في ذاكرتهم تجارب ثمينة، ويعملون بجد لتعزيز العلاقة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم وتجاوز الخلافات.
غير أن هناك، للأسف، من يضع مصالحه الشخصية فوق المصلحة الوطنية، ويعجز عن تقبل فكرة وجود إقليم يتمتع بخصوصية معينة، ويرفض التعددية، ويؤمن بالمركزية المطلقة. هؤلاء غالباً ما تأتي قراراتهم مخيبة للآمال، ولا تراعي معاناة المواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم ووضعهم الاقتصادي.
لن يستعيد العراق مكانته كدولة موحدة وذات شأن إلا إذا استطاع قادته جميعاً، دون استثناء، قبول بعضهم بعضاً والعمل وفق الدستور بطريقة قانونية واقعية ومنطقية، بعيداً عن الأفكار التي من شأنها إضعاف العراق وتقسيمه.
يتوجب على الأطراف كافة تجنب منهجيات الاستبعاد والتهميش، والتعامل مع التباينات السياسية بنهج تشاركي بنّاء، مع ضرورة الحد من نفوذ الأصوات التي تسعى وراء مصالحها الذاتية الضيقة، وإفساح المجال للخطاب الوطني المخلص الذي يستهدف تعزيز مكانة العراق وتحقيق ازدهاره المنشود.
في نهاية المطاف، ستظل وحدة العراق وسيادته هدفاً استراتيجياً لا يمكن تحقيقه إلا بالحوار البنّاء والتعاون المثمر بين جميع مكوناته، بما فيها إقليم كردستان الذي يمثل جزءاً من العراق.