كانت الشيخة مي آل خليفة، وزيرة الثقافة السابقة في البحرين، هي أول الذين وضعوا إيلان بابيه حيث يجب أن يوضع عربياً في إطار. كان ذلك ضمن سلسلة محاضرات تنعقد على طول السنة، ويستضيفها مركز يحمل اسم جدها الشيخ إبراهيم.
أما بابيه فهو مفكر يهودي، وأما أفكاره فإنها تنتصر للحق الفلسطيني باستمرار، ولا تتوقف عن رفض كل ما ترتكبه إسرائيل بحق الفلسطينيين في قطاع غزة وفي غير القطاع. فالقضية في فلسطين أوسع من أن يجري اختزالها في غزة على شاطئ البحر المتوسط، وأكبر من أن نحبسها في هذا الشريط الأرضي الذي يمتد على الشاطئ ما امتد القطاع.
وقد واجه بابيه عنتاً كثيراً بسبب أفكاره التي تفرِّق بين اليهودية بصفتها ديانة سماوية نزلت من السماء كما نزلت المسيحية والإسلام، وبين الصهيونية بوصفها فكرة سياسية تبرِّر احتلال أرض الآخرين، وتشجع على ارتكاب ما تشهده غزة على امتداد ما يقرب من العامين. يفرِّق الرجل بينه هو نفسه يهودياً يَدين بدين نزلَ من السماء، وبين أي يهودي آخر يخلط بين اليهودية والصهيونية، ولا يحفظ قدر الديانة السماوية من سوء ما تحمله الفكرة الصهيونية من فساد وإفساد.
كان هذا باختصار هو ما قاله المفكر اليهودي وهو يزور مركز الشيخ إبراهيم في محافظة المحرق البحرينية، ثم وهو يلتقي فيه الجمهور المتعطش إلى أن يعيش يوماً يرى فيه عودة الحق لأصحابه في أرض فلسطين.
ولم يتوقف بابيه عند حدود التفرقة بين الديانة المجردة بطبيعتها من كل ما لا يتصل بمبادئ الدين، وبين الفكرة السياسية المُحمّلة بأطماع الإسرائيليين، ولكنه ذهب إلى الدعوة لأن يكون لدى العرب متحف يؤرِّخ لضحايا الدفاع عن الأرض ضد المحتلين.
كان بابيه يعرف أن لدى اليهود متاحف تؤرِّخ لما ألحقه بهم هتلر في زمن الحرب العالمية الثانية، وتوثِّق لما وقع بحق عدد من يهود ذلك الزمان، ولكنه كان ولا يزال يدهشه ألا تكون لدى العرب متاحف مماثلة توثِّق وتؤرِّخ لمسيرة طويلة في الدفاع عن أرض الآباء والأجداد في فلسطين. ومن مقر مؤسسة الجد، البحرين، دعا الرجل وهو يحاضر في الموجودين إلى أن يخرج متحف عربي من هذا النوع إلى النور.
دعا إلى ذلك ثم مضى في سبيله، ولكن دعوته لا تزال في مكانها لم تخرج إلى النور، ولو بحثت الدعوة عن أجواء تحتضنها وتغري بها، فلن تجد أفضل مما شهده ويشهده القطاع منذ إطلاق الحرب الإسرائيلية عليه في السنة قبل الماضية. ولا بد أن الشيخة مي تتمنى لو استطاعت أن تنشئ متحفاً لهذا الغرض في صباح الغد، بل تتمنى لو كانت قد سارعت إلى إخراج الفكرة للنور منذ أن أعلنها صاحبها ودعا إليها، ولكن فكرة كهذه تحتاج إلى عمل مؤسسات عربية كبيرة، وبإمكانات ضخمة، لا تتوفر بالضرورة لحفيدة الشيخ إبراهيم.
وعندما يأذن الله تعالى للفكرة أن ترى النور، فإن الشيء الأهم فيها سيكون الصورة ولا شيء آخر. أقصد الصور التي تجسد ما عاشته غزة طوال ما يقرب من السنتين، فالكلام الذي قيل عن محنة الفلسطينيين في القطاع بالذات وخارج القطاع في العموم، يمكن أن يجد مَنْ يقول إنه كلام غير دقيق أو غير صحيح، والأرقام المعلنة عن عدد الضحايا الذين فاقوا الخمسين ألفاً، يمكن أيضاً أن تواجه الكثير من التشكيك، ولكن لا تشكيك سوف ينفع مع الصور، ولا الاتهام بعدم الدقة وعدم الصحة سوف يجدي معها بالدرجة نفسها.
الصور المتوفرة عن فظائع الحرب على الفلسطينيين لا تقل بؤساً عن الصورة الشهيرة لفتاة فيتنام. تلك الصورة التي لا تزال محفورة في الذاكرة العامة، والتي يتجسد فيها منظر الفتاة وهي تركض عاريةً أمام قنابل النابالم الحارقة يوم ألقاها الأميركيون على الفيتناميين. شيء كهذا سوف يحققه المتحف الذي دعا إلى إنشائه بابيه، لأن الصور التي تنتظره بالعشرات، والمئات، والآلاف، وفيها يتجسد فعل الإنسان بأخيه الإنسان في أرض فلسطين، إذا جاز أن يوصف ما ارتكبه الإسرائيليون بأنه من فعل إنسان.
لم يمر الفلسطينيون على طول تاريخ القضية بما مرّوا به على مدى ما يقترب من السنتين الكاملتين، وليس من المعقول أن تضع الحرب أوزارها، ثم تنطوي معها صفحة الأهوال التي عاشوها بغير توثيق. فلقد قيل دائماً إن ما لا يتم توثيقه يبقى في حُكم غير الموجود.
صورة واحدة خلّدت وسوف تظل تخلِّد عمق ما تعرضت له فيتنام، ولكن ما أصاب أهل فلسطين لا تكفيه صورة واحدة، فكل صورة سوف ترسم زاوية، ومن مجمل الزوايا سوف تتكامل ملامح مأساة تتوارى أمامها ما جَرَت به فرشاة بيكاسو، يوم وضع أمامنا ما عاشته قرية جيرنيكا في بلاد الإسبان. فاللوحة التي تحمل اسم القرية، بَدَت ولا تزال تبدو، كأنها مرسومة بالدم مخلوطاً بالألوان.