عبده خال
الضخ المهول من البث يصيب الإنسان بالاهتزاز، ويفقده الاتزان، وأي تصويب لمهتز لن يفلح في الوصول إلى غايته المرجوة.
في السابق، وعقب الثورة الصناعية استشعر الناس تلك الاهتزازات العنيفة التي سطت على الحياة الوديعة السهلة، وكانت آراء علماء النفس والاجتماع اعتزال معطيات تلك الثورة، وتلقف الأدباء والفنانون فكرة العودة إلى القرية كانتماء وجودي لبيئة تحافظ على المكونات النفسية، وتعيد إلباسك العفوية، وإسكان الهدوء لداخلك الذي اضطرب بأفعال المدينة العارية والصادمة معاً.. كانت دعوة العودة إلى القرية منحى، ولسنوات طويلة ظلت القرى والأرياف الأوروبية أماكن مستهدفة للحصول على الراحة والسكينة، وظلت بعض القرى تتمسك بالطيبة القروية بعيداً عن منتجات المدينة الجالبة للضغوط النفسية، وتسارع عجلة الحياة الراكضة نحو الاحتياجات وتوفيرها، كونها تحولت إلى احتياجات رئيسية..
والآن، ومع ضجيج الحياة الراهنة، هل من المناسب استعادة الدعوة للعودة إلى القرية؟
وصياغة الفكرة تنقض نفسها بنفسها، فلم تعد هناك قرية، فقد استوطنت المدينة كل القرى، وجلبت معها كل أدواتها الجالبة للضجيج، بدءاً من الكهرباء واستخداماتها، ومن خلال الكهرباء انهالت بقية محركات حياة المدينة، لم تعد هناك قرية بمواصفاتها القديمة، كنت في زيارة لمنطقتي، وتنقلت بين القرى التي سكنت أعماقي، إلا أنني لم أجد القرية الساكنة في ذكرياتي، فكل قرية تحولت إلى مدينة.. وتحول السلوك القروي إلى سلوك مدني .. وحين ترسخ النت كحياة لا يمكن الاستغناء عنه، ففي بداية دخول النت، ارتفع الصوت بأن العالم يعيش في قرية صغيرة، وهذا هو السطو الأول لمفهوم القرية، ومع سير الأيام وتعاقبها لم يعد هناك من قرية سوى قفصك الصدري، هذا إذا لم يتم السطو عليه وتحويله إلى حق مشاع للذكاء الاصطناعي، فإلى حين نذهب تجنباً لذواتنا، وصيانة لأنفسنا، إلى أين نذهب؟