لم يكن أحد ليتخيل حتى في الأحلام الصورة التي جمعت بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب وأبو محمد الجولاني الذي تحول لاحقًا ليصبح الرئيس السوري أحمد الشرع، لكن ما فاق الخيال تجسد واقعًا في تلك الجلسة التي جمعت أقوى رئيس للولايات المتحدة عبر التاريخ بواحد من ألد أعداء أميركا والمصنف على قوائم الإرهاب والذي رُصدت مكافأة قدرها عشرة ملايين دولار مقابل رأسه. عُقد هذا اللقاء المفصلي في ديار صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، ويمكن اعتبار هذه الجلسة بمثابة رسم لخريطة سوريا المستقبلية، ولا شك أن ما دار فيها وما ترتب عليها وما سيتبعها سيحدد ملامح سوريا الجديدة، تلك التي تتجاوز حكم عائلة الأسد، ونتيجة لذلك شهدنا احتفالات عارمة في شوارع المدن السورية انطلقت فور انتهاء تلك الجلسة والإعلان عن رفع العقوبات عن البلاد، بيد أن ما جرى في تلك الجلسة التاريخية سيضع عبئًا ثقيلًا على عاتق الشرع ورفاقه، وبالرغم من ذلك فإن حضور رعاة النظام السوري الجديد وهما المملكة العربية السعودية وتركيا سيساعد بشكل كبير في تذليل العقبات التي قد تعترض طريق المطالب الأميركية من الشرع، وعلى رأس هذه المطالب يأتي ضمان ألا تشكل سوريا أي تهديد لجيرانها، خاصة إسرائيل، وفتح الاقتصاد السوري للاستثمارات الأميركية في قطاعي النفط والغاز. بالإضافة إلى ذلك، تعهد الشرع بالتخلص من ترسانة الأسلحة الكيماوية في سوريا، كما قدم وعدًا للرئيس الأميركي بأنَّ سوريا لن تنضوي تحت أي معسكر معادٍ لأميركا، على النقيض من نظام الأسد، الذي فتح البلاد على مصراعيها للنفوذ الروسي والإيراني ليسيطرا على مقدرات الشعب السوري.
علاوة على ذلك، سيساهم رعاة الشرع في انفتاح سوريا على إسرائيل وإقامة علاقات هادئة معها، وهو أحد أهم المطالب التي تقدم بها ترامب لدمج سوريا في إطار خطة السلام العربي الإسرائيلي، أو ما يُعرف بالاتفاقات الإبراهيمية. ولعلَّ المهمة الأصعب التي تواجه الشرع تتمثل في تنفيذ أحد أهم المطالب الأميركية، وهو إخراج المقاتلين الأجانب من سوريا وضمان عدم إقامة حكم ديني في البلاد، بالإضافة إلى احترام حقوق الأقليات وصونها.
إقرأ أيضاً: لماذا يسعى البعض لتجريد السوريين من وطنيتهم وزرع الطائفية؟
لقد حظي هذا الاتفاق بتشجيع من ترامب، خاصة أنَّ الشرع لم يأتِ بمفرده، بل اصطحب معه الضامنين والمشرفين على عملية الانتقال السياسي في سوريا، وهما حليفان وثيقان للولايات المتحدة الأميركية، ويبدو أن ثقة ترامب بهذين الضامنين شجعته على الإعجاب بالشرع وشخصيته وتاريخه القوي، مما يوحي بقدرته على توحيد الصفوف في سوريا كما قال، وهذا يعني أنَّ جزءًا كبيرًا من المهمة قد أُنجز بالفعل، وأنَّ سوريا قد وضعت نفسها على طريق المستقبل وحصلت على إذن العبور نحو هذا المستقبل من بوابة رئيس أكبر دولة في العالم.
إقرأ أيضاً: سوريا: مستقبل غامض في ظل صراع معقد
لكن يبقى السؤال: أي مستقبل يريده السوريون؟ وأي مستقبل تريده أميركا لهم؟ وأي دور ستلعبه كل من السعودية وتركيا في رعايته؟ فسوريا نظر إليها الكثيرون بعين الريبة والشك لحظة وصول هيئة تحرير الشام للحكم في عاصمتها دمشق عقب هروب الأسد وجيشه وأركان حكمه، بوصفها جماعة إسلامية متشددة تنوي استنساخ نموذج طالبان في سوريا. إلا أن خطابات وتصريحات أحمد الشرع طمأنت السوريين والعالم نسبيًا بأن بلاده لن تكون أفغانستان أخرى، بيد أن الشرع واجه تحديًا كبيرًا يتمثل في التنوع العرقي والطائفي في سوريا، وهو ما تجلى فيما عُرف بأحداث الساحل، لكنه سرعان ما تدارك الأمر ووقّع اتفاقًا مع قوات سوريا الديمقراطية، وهو اتفاق اعتُبر إنجازًا تاريخيًا أعاد الثقة بالشرع بعد أن كاد يفقدها، وبعد ذلك تجدد اختباره بأحداث تتعلق بأحد المكونات الأساسية للشعب السوري، وهم الدروز، الأمر الذي دفع إسرائيل للتدخل في هذا الخلاف لأسباب خاصة بها، ومن هنا أدرك الشرع ورعاته الإقليميون أنه لا بد من صياغة معادلة حكم تُرضي جميع مكونات الشعب السوري وتضمن عدم تكرار ما حدث، ولذلك فإنَّ أحد أهم محددات مستقبل سوريا يتمثل في إيجاد معادلات للمكونات السورية ترضي الجميع، وقد قدم الشرع ضمانات بأنَّ الأقليات لن تُمس، وسيجد صيغة للتفاهم معها، ونتيجة لهذه الخطوة، قد تتجاوز سوريا مستقبلًا معضلة التقسيم، أما المعضلة الأخرى والأشد تعقيدًا فهي إسرائيل، التي تُعتبر قنبلة موقوتة في وجه الشرع ورفاقه في دمشق، ويمكن القول إنَّ الشرع وجد لهذه المعضلة حلاً يتمثل في التطبيع مع إسرائيل، وقد يحمل هذا التطبيع أسماء أخرى لضمان بقاء إسرائيل بعيدة عن تفجير الداخل السوري وتأمين حدودها والحصول على اعتراف من حكومة دمشق، وهو ما تسعى إليه دمشق.
إقرأ أيضاً: صراع الممرات الاستراتيجية وتأثيره على الشرق الأوسط والعالم
أما في ما يتعلق بجوار سوريا، فقد عانى طويلًا من عبث نظامي الأسد الأب والابن، سواء في لبنان أو حتى العراق، وقد وعد الشرع بعدم تكرار ذلك في مستقبل بلاده، في المقابل تبرز عقبة أخرى ذات أهمية قصوى بالنسبة إلى الشعب السوري واستقراره، وهي ملف الاقتصاد، وأعتقد أنَّ الشرع سيركز بشكل كبير على تفكيك هذا الملف بهدف النهوض بسوريا التي عانت طوال أربعة عشر عامًا من حرب طاحنة أتت على بنيتها التحتية ومقدراتها وأغلب قدراتها الاقتصادية، ولهذا سيضع الشرع جانبًا الكثير من السياسة والمحاور، وينشغل بالداخل السوري اقتصاديًا وأمنيًا بالطبع لضمان عدم تفجر الأوضاع في سوريا من جديد. هذه رؤية يسعى إليها العالم لمنح سوريا فرصة ومد يد العون لها نحو النهوض، وما يتبقى فقط هو التطبيق الفعلي لهذه الخطط.