: آخر تحديث

عثمان العمير.. حبر يسبق الزمن

3
3
2

لم يكن تكريم الصحفي العربي عثمان العمير، ذلك الرائي الذي أبصر مجد الإعلام قبل أن يُمَد له جسراً في الرمل العربي من البرلمان البريطاني، مجرّد منح ميدالية "إرث التغيير" لرجل مارَس مهنته بشغف، بل هو بمثابة اعتراف عالمي بمسيرة رجل تجرّأ على الحلم وسط قوالب جامدة، وفَتَح نافذة على المستقبل في جدارٍ يُرهِقه الغبار الورقي، حين أطلق أول صحيفة إلكترونية في العالم العربي: "إيلاف". في العام 2001، حين لم تكن الرقمنة سوى همسة في دهاليز التكنولوجيا، قرر عثمان العمير أن يقفز على الورق، لا عليه. أن يستبق الزمن، لا أن يواكبه.

ولد عثمان العمير عام 1950 في قلب السعودية، في زمن كانت فيه الصحافة مجرد حاشية على متن الحياة اليومية. بدأ مراسلاً رياضياً، ولكن سرعان ما ضاق عليه ذلك القالب، فاندفع إلى فضاء أوسع، حيث الكلمات تكتسب وزنها من صدقها، لا من عنوانها. تولى رئاسة تحرير صحيفة "اليوم" وهو في الثلاثين من عمره، وسرعان ما أصبح اسماً حاضراً في الذاكرة المهنية للصحافة العربية حين تولى رئاسة تحرير "الشرق الأوسط" و"المجلة"، وهناك صاغ لغته الخاصة: لغة التبصّر والتعقّل والجرأة، لغة لا تركع للسلطة لكنها لا تهوى العداء المجاني.

في "الشرق الأوسط"، كان عثمان أشبه بالمهندس الذي يعيد رسم بنية الوعي العربي: صفحات لا تستدرّ العواطف بقدر ما تستفزّ التفكير، وعناوين لا تصرخ بل تسأل، وتطرح، وتفتح أفقاً من التأمل. لكنه لم يكتفِ بما أُنجز، بل اختار الانقلاب على المألوف.

حين انطلقت "إيلاف" من لندن، في 21 أيار (مايو) 2001، كان ذلك فعلاً إعلامياً غير مسبوق. في وقت لم يكن فيه "الويب" أكثر من تجربة شبه هامشية في الإعلام العربي، تجرأ العمير على أن يقدّم صحيفة لا ورق لها، لا مطابع، لا رسوم توصيل، لا رائحة حبر... بل رائحة فكرة.

"إيلاف" كانت أكثر من وسيلة إعلام، كانت بياناً فلسفياً في حرية التعبير. من خلال تصميمها، وطريقة تحريرها، وشبكة مراسليها، ومحتواها المتحرر من الرقابة، أراد العمير أن يثبت أنَّ الصحافة يمكن أن تكون حرة من دون أن تكون فوضوية، جريئة من دون أن تكون وقحة، وذكية من دون أن تكون نخبوية.

في قلب لندن، حيث ولد كثير من الأفكار التي أعادت تشكيل العالم الحديث، كان العمير يعيد تشكيل مفهوم الصحافة العربية. كان يوقن أن التغيير لا يأتي من مجرد شجاعة الموقف، بل من بنية تحتية للحرية، من بيئة تسمح بطرح الأسئلة، وتقدّس الشكّ المشروع، وتُعلي من شأن الاختلاف.

اختيار القاعة 14 لتكريمه لم يكن تفصيلاً عابراً. تلك القاعة التي تصنع فيها الأحزاب الحاكمة في بريطانيا قراراتها المصيرية، أصبحت فجأة منصة لإحياء دور الصحافة كسلطة رابعة، لا تكتفي بالمراقبة، بل تساهم في البناء.

قال العمير في كلمته أثناء التكريم: "الإعلام ليس مجرد أداة لنقل المعلومات، بل هو قوة فاعلة لتحقيق العدالة والتقدم المجتمعي". وهذه ليست جملة إنشائية؛ إنها خلاصة مسيرة، وأمل لا يخفت في قوة الكلمة. أراد أن تكون هذه القاعة، التي شهدت قرارات الحرب والسلام، شاهدة على تكريم مهنة ما زالت تؤمن بأن الحقيقة لا تموت، وإن دفنتها السلطة.

تكريم عثمان العمير جاء محمّلاً برمزية عالية، ليس فقط لأنه أول صحفي عربي يُكرَّم بهذا الشكل في مؤسسة تشريعية غربية، بل لأنه كان دوماً "جسراً ثقافياً" يربط الشرق بالغرب، الجنوبي بالشمالي، التراثي بالرقمي.

ما ميّز العمير لم يكن فقط مواقفه، بل "رؤيته". لم يرد لـ"إيلاف" أن تكون صحيفة تعيد اجترار الأخبار، بل أن تكون منصة للتفكير النقدي، للحوار، وللاعتراف بالآخر. انفتاحها على التيارات الفكرية المتباينة، نشرها لمقالات تلامس القضايا المسكوت عنها: من حقوق المرأة، إلى حرية الاعتقاد، من العنف الأسري، إلى تمكين الفتيات، جعل منها استثناءً لا يتكرر.

هذه الرؤية نبعت من إحساس عثمان العمير بأنَّ الإعلام لا يمكن أن يعيش في جزر منعزلة. فالصحافة عنده ليست مرآة للأحداث، بل فاعل يشارك في إعادة تشكيل وعي الجمهور. لهذا، لم يكن مستغرباً أن تحضر شخصيات رفيعة حفل تكريمه، وكأن في حضورهم إقراراً بأن العمير ليس مجرد صحفي، بل مفكّر يحمل مشروعاً إنسانياً.

يبدو أنَّ عثمان العمير، في عمق تجربته، كان يبحث عن شيء يتجاوز السبق الصحفي، إنه يسعى لتأسيس نمط وجود إعلامي. لم يكتف بأن يكون ناقلاً للأخبار، بل أراد أن يكون أحد الذين يصنعون المناخ الثقافي العربي الحديث. وقد ظهر هذا في مقالاته التي تتجاوز الإخبار إلى التأمل، إلى الفكر، إلى محاولة فهم الإنسان في مجتمعه، وفي ذاته.

كتابه "مقابسات نهاية القرن"، الذي ضمّ حوارات مع قادة وزعماء عرب ودوليين، كان محاولة لتوثيق لحظة مفصلية في التاريخ العربي الحديث. لكنه كان أيضاً كتاباً عن الإنسان في مواجهة التحولات، عن اللغة التي تقاوم التكلّس، عن الحرف حين يصبح مرآة للعصر لا مجرد انعكاس له.

اليوم، بعد أكثر من خمسة عقود من العمل الإعلامي، وبعد رحلة بدأت من صخب الملاعب وانتهت في قاعات التشريع البريطاني، يظل عثمان العمير نموذجاً للصحفي الذي لا يكتفي بالحضور، بل يسعى لأن يكون علامة، ليس فقط في التاريخ الصحفي، بل في الضمير الثقافي.

تكريمه ليس مجرد وسام، بل هو شهادة على أن الحبر حين يُسكب بضمير، يتحوّل إلى ضوء، وأن الصحفي، إن تحرر من الخوف، يمكن أن يكون مؤرخاً لحيوية الشعوب، لا مجرد راصد لخيباتها.

إنَّ مسيرة عثمان العمير تقول لنا شيئاً بسيطاً وعميقاً في آن: الصحافة ليست مهنة، بل حالة؛ حالة من التمرّد الجميل على السائد، ومن البحث عن المعنى في زحام التفاصيل، ومن الإيمان بأن الحقيقة تستحق أن تُعاش، لا أن تُجمّد في قوالب الرضا السهل.

في تكريمه، يكتمل نصف الحكاية. أما النصف الآخر، فهو ما سيكتبه الجيل الجديد من الصحفيين الذين رأوا في "إيلاف" ليس مجرد موقع، بل مرآة لزمن كان يمكن فيه للكلمة أن تسبق الرصاصة، وأن تُطفيء ناراً، لا أن تشعلها.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.