الثلاثاء المقبل، ينعقد مجلس الوزراء اللبناني لـ«البحث في تنفيذ البيان الوزاري في شقه المتعلق ببسط سيادة الدولة على جميع أراضيها بقواها الذاتية حصراً». أعلن ذلك رئيس الحكومة نواف سلام، الذي وصف الدعوة بأنها «في سياقها الطبيعي وليست استفزازاً لأحد»، مضيفاً أن البحث سيتناول: «الترتيبات الخاصة بوقف الأعمال العدائية، والتي تضمنت ورقة السفير توم برّاك أفكاراً بشأن تطبيقها».
يشكل ما أعلنه سلام بداية لنقل لبنان من حالٍ إلى حال. حصر السلاح بيد القوى الشرعية، مطلب المواطنين قبل أي جهة خارجية. ويلقى دعم أكثرية وازنة تواقة لوضع حدٍّ لزمن السلاح اللاشرعي والبؤر الأمنية والمربعات العاصية على القانون، ولا يتحقق إلا باستعادة الدولة لمكانتها وهيبتها ببسط السيادة من دون شريك.
هنا يكمن التحدي في القرار الذي سيتخذه مجلس الوزراء، فإن أقرّ مهلة زمنية لا تقبل التأويل لجهة جمع السلاح اللاشرعي، من كل لبنان، فستكون السلطة قد خطت لبدء البلد مغادرة حقبة زمن الهيمنة الإيرانية برفع الغطاء عن سلاح غطى إذلال الناس ونهبهم، وفتّتَ الدولة وطيّفها، واستدرج الاحتلال. وتكون هذه السلطة تحملت للمرة الأولى منذ «اتفاق الطائف» مسؤولية القرار بأن لبنان هو الأولوية وليس السلاح اللاشرعي، وبأن الأولوية قيام الدولة التي يلوذ بها الجميع للحماية واستعادة الحقوق وصون الحريات. وفي الأهمية عينها سيشكل ذلك رسالة للداخل والخارج تفرمل التراجع الكارثي في الثقة. وسيفتح مثل هذا القرار باب تحفيز المواطنين، الذين يئسوا، لمؤازرة هذا التحول ودعمه، فلسان حال الناس: نريد استعادة الدولة المخطوفة.
أكد هذا المنحى الخطاب الرئاسي في عيد الجيش الذي وضع حصر السلاح بيد الدولة بسياق «وقف الموت على أرضنا، وأن نوقف الدمار والانتحار، خصوصاً حين تصبح الحروب عبثية ومجانية ومستدامة لمصالح الآخرين». وواضح أن بديل ذلك يدخل العهد في مرحلة تصريف أعمال مبكرة، تنذر بعزلة أكبر وخسارة فرصة عودة لبنان، وتهدد بأوخم العواقب في وقت لا يُخفي فيه العدو نواياه.
لقد كان مضنياً المخاض الذي أفضى لهذا التوجه؛ إذ رفض «حزب الله» يد الرئاسة الممدودة، وسعى لجعل نهج الإنكار سياسة عامة، عندما ادعى «إنجازات» تحققت بفضل سلاحه، متجاهلاً التسبب باستباحة البلد وعودة الاحتلال. وبلغ التهويل حد تهديد المفتي قبلان بإسقاط «القيمة الميثاقية للحكومة»؛ أي الاستقالة! وهددت «الأخبار» بـ«7 مايو (أيار)» جديد (...) وزعم الشيخ نعيم قاسم، أمين عام «حزب الله»، بأن «تسليم السلاح يخدم المشروع الإسرائيلي»، ولوّح بالحضور الشعبي لـ«حزبه». وبلغ الهراء الذروة عند إسباغ «هوية شيعية» على السلاح، والادعاء بأنه عنوان «النهوض السياسي النوعي للشيعة في لبنان»، وضرورة «لمواجهة خطر وجودي (...)».
ليس سهلاً القرار الذي جانبته حكومات ما بعد الطائف، فتشاركت في مسؤولية تصدع الدولة. ومهين جداً تقزيم موقع الشيعة في تركيبة لبنان، وربطهم بسلاح لا شرعي، خصوصاً بعد هزيمة حرب «الإسناد» التي طالت كل فئات البلد كما «الحزب». وهنا نفتح مزدوجين لكي نشير إلى أن هناك من يعيد تعويل «الحزب» على التهديد بالحضور الشعبي الذي يستند إلى أسر الـ70 ألف راتب من المتفرغين، وألوف أسر الضحايا ممن تسبب «الحزب» بقتلهم في حروب المشروع الموكل إليه. هؤلاء أصحاب مصلحة ببقاء السلاح، لكنهم جزء متواضع من حجم البيئة الشيعية. والأرجح لن يتبقى الكثير عند الشيخ نعيم قاسم إثر انهيار شبكة الكبتاغون وتبييض الأموال وانتهاء زمن «نظافة الكف» و«المال الطاهر»، أمام قدرة الجهات العسكرية والأمنية على استيعاب الوضع الجديد، والأهم حجم الالتفاف حول الدولة!
لا شك أن تردد السلطة في الأشهر الماضية أفقدها «مومنتم» شعبي فتراجعت الثقة، كما برزت تباينات بين أركان الحكم وفي مجلس الوزراء... وآن أوان تحمل المسؤولية كاملة بعدما تظهّر استياء أشقاء لبنان وأصدقائه الذين لمسوا أداءً يستخف بالمسؤولية الملقاة على عاتق أصحاب القرار للاختيار بين الدولة واللادولة. بهذا السياق لم تحظ طروحات السفير برّاك بما تستحق، رغم أن منطلقها التحذير من التعامي عن أبعاد التغيير الجيوسياسي، والتماهي مع سياسات لا تعطي الأولوية لتحرير القرار وإنهاء النفوذ الإيراني المستند إلى السلاح، وهو الممر الإلزامي لفتح باب معركة تحرير الأرض وبدء التعافي والنهوض.
بعيداً عن تهديدات إسرائيل الجدية بضربات مكثفة، وتهديد سموتريتش بعدم الانسحاب ومنع إعادة الإعمار، ورغم رعونة «حزب الله» ومخاطر الضغوط المالية والاقتصادية، والتهويل على مجلس الوزراء، فإن المناخ الكامن الذي عاد للتبلور في وداع الفنان الراحل زياد الرحباني، هو دعم حقيقي لسياسة بسط السيادة وجمع السلاح. كل الحضور الشبابي الشعبي والتشريني كان له عنوان واحد؛ وقف اختطاف الدولة ليعود لبنان مساحة حرية وتنافس وإبداع ودولة قانون. ومن دون مبالغة، إنه مناخ يُعول عليه لدعم أي محاولة جادة لإنهاء ضمور الجمهورية وقيمها.
هنا، مفيد التأمل ببعض ما قاله الرحباني في واحدة من آخر مقابلاته متوجهاً إلى «حزب الله»: «ما بقى فيكن تغمضوا عيونكن عن أنه في غيركن بالجنوب، بس يجي الحل (حزب الله) رح يصير بدو رضا أهل الجنوب لأن ما عنده مشروع». ونردد مع زياد: «إيه في أمل؟!».