: آخر تحديث

الذكاء الاصطناعي وتاجر الموت

7
7
7

علي بن محمد الرباعي

ما لا ننتجه ربما لا نعرف تفاصيله، وما نعرف تفاصيله ليس بالضرورة أن نحسن التعاطي معه كوننا لسنا الذين أنتجناه؛ وليس كل منتج نافعاً، ولا كل صناعة خالية تماماً من الضرر، وضمان الفعل الضار، في كل الشرائع أمر مفروغ منه، بالنصوص وبالأعراف، وتارة يكون الضمان على المتسبّب، وتارةً على المُباشر، وتارةً عليهما معاً، وربما لم يرد الضمان على ما فيه ضرر أخلاقي إلا بالقوانين والأنظمة الحديثة.

ومن فروع قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) إزالة الضرر القائم، ومحو أسبابه، وما تشريع الحدود إلا كونها زاجراً عن الوقوع في الآثام، كما أنّ في القصاص حياة، ويمكن القياس عليهما، في كل ما من شأنه إفساد أخلاق وسلوكيات البشر، فالفساد الأخلاقي إماتة للروح، وخطورة الرقمنة أنها لا تراعي خصوصية مجتمع، أو ديانته؛ أو ردات فعل أهله؛ ممن يستقبلون منتجات وصناعات رقمية، تضخها شركات على مدار العام والشهر والأسبوع واليوم، وهناك من يتفاءل بها، ويتفاعل معها دون استرابة، أو شكٍّ فيما وراءها من أجندات.

ومؤكد بالتجارب السابقة أن ما تقدمه شركات الآخرين لنا؛ ليس مجرد سلعة للبيع والتربّح، بل ثقافة وأيديولوجية تتسلل بيننا، وتشيع في أوساطنا، ومع الوقت تصبح مسلّمات، وعندما نريد مثلاً أن نتصور حال العالم عقب عشرين عاماً، علينا الرجوع إلى ما قبل عقدين من الزمن، للمقارنة بين ما كانت عليه الحياة من بدائية إلكترونياً، وما نحن فيه، ثم نقيس على ذلك، مع الأخذ في الحسبان التنافس المحموم على صناعات وتقنيات مستقبليّة لن تحرّم ولا تُجرّم إلا ما يضرّ بها.

وما يتم طرحه اليوم وغداً، عبر أحدث التطبيقات، مخيف أو مريب أو غير آمن، فالعالم الافتراضي مفتوح ومنفتح على الآخِر، وربما يؤثر في الأجيال، بتطبيقات تداعب مشاعرهم، ولا أستبعد تورّط بعضهم في الإلحاد، أو الانحلالات الأخلاقية والتزوير والانتحال والتحايل، ولن يغيب عن أذهان المتابع ما أحدثته الدراما الوافدة في أعوام مضت من أثر على الثقافة الاجتماعية.

ومما أراهُ موغلاً في التجاوزات من الذكاء الاصطناعي انتحال الأصوات، وتركيبها على فيديوهات شخصيات اعتبارية، يظهرون فيها بصورهم المعروفة، إلا أن الطرح لا ينسجم مع مواقفهم ولا مواقعهم، ولا قناعاتهم ومكانتهم السياسية والاجتماعية والدعوية، وتذاع عبر هذه الفبركة فتاوى، وتُمرر معلومات، وتُبثُّ شائعات، تشوّش القناعات، وتبلبل الفكر، وإنسان هذا الزمن غالباً لا يدقق، فيتلقى الرسائل ويشاهد المقاطع، وربما ظنّها حقائق، فتزعزع ثقته بمن كان يثق بهم.

ونحن في وطننا، نحتفظ بهويّة إسلامية معتدلة، وقِيَم نبيلة، ووحدة وطنيّة قلّ نظيرها، وربما لا نظير لها، ومن الخطورة التسليم والقبول بكافة معطيات الذكاء الاصطناعي، وإن عدّه البعض سيّد المرحلة، وأن منافعه أكثر من آثامه، لكن لا ندري عن الضرر الذي لحق ويلحق بشبان وفتيات يوقعهم في مخالفات ومخاطر تخدم مصالح وسياسات لا تعنيها الأديان ولا المبادئ ولا التعاليم السماوية، ولا نخفي الحاجة إلى التحصين والتقنين الفردي والمؤسسي للحدّ من البرامج الضارة؛ فبعض الدوّل الكبرى تجاهد في سبيل تفادي الوافد والوارد إليها من مسوّق يطمح لإذابة الهويّات في هويّة واحدة، وفي ذلك تعدٍ على حريات الشعوب والأمم، وحقّها في اختيار ما يصلح لها، وما تصلح به.

سلّمنا بأن العالم قرية أو غرفة كونية؛ إلا أن عقائدنا وأخلاقنا وأدبياتنا ليست هي ذاتها التي يؤمن بها كل من يدخل غرفتنا أو قريتنا بما يدفع من (أجهزة وشاتات وروبوتات) تسهم في اختراق القلوب قبل الجيوب، وفي ظل إطالة النظر بما تحبل به مراكز الأبحاث والدراسات والصناعات، نتطلّع أن يستحضر المُشرّعون الضمان في الفعل الضار، وإن كُنّا لا ندري من نقاضي عليه (الآلة أو مخترعها أو الدولة التي صدّرتها أو التاجر الذي استوردها؟).

بالطبع الذكاء الاصطناعي ليس معلومة، ولا منتجاً رقمياً، بل ثقافة وسلوك وبرمجة ذهنية لها أثر في كل تفاصيل حياتنا، و(نوبل) الذي اخترع الديناميت لم يقصد إشعال الحروب، ويرى نفسه داعية سلام، وبحكم أنه امتهن صناعة المتفجرات، اشتبهت الصحافة أخريات عمره في اسم متوفّى، ظنّته (نوبل) ولم يكن هو بل شقيقه، فاستعجلت النشر؛ وكتبت (وفاة تاجر الموت، الذي جمع ثروة طائلة باكتشافه طريقة أسرع لقتل أكبر عدد من الناس). وعندما قرأ نعيه وهو على قيد الحياة قلق على سمعته، وخاف من لعن الأجيال لسيرته، وتعبيراً عن ندمه قرر تخصيص 94% من ثروته (31 مليون كرونة سويدية) لاستثمارها، ومنح جوائز من عوائدها، للإنجازات التي تخدم الإنسانية في مجالات الطب، والفيزياء، والكيمياء، والآداب، والسلام.

يمكننا التعامل مع الذكاء الاصطناعي بسياسة قلب الطاولة؛ بأن يكون التحكم في الذكاء الاصطناعي بأيدينا، للتطوير والابتكار والاعتماد على النفس، ورفد عوامل الإنتاج، والاكتفاء من التعويل على غيرنا، وتوطين النسخ المحلية منه، ليغدو (منافع لا آثام) لا (إثمه أكبر من نفعه).

تلويحة: كان لتطبيق (فيس بوك) أثره في ما سُمّي (الربيع العربي) ببذره الحقد على الأوطان في نفوس بريئة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد