نبيل سالم
ماذا سيكتب التاريخ عما يشهده قطاع غزة من جرائم تُرتكب على مرأى العالم كله وفي بث تلفزيوني مباشر تطغى على مشاهده دماء الضحايا وأنّات المجوَّعين، الذين لا يبعدون كثيراً عن آلاف شاحنات المساعدات الإنسانية، والتي تتلف محتوياتها بعد فسادها مع الوقت وسط تراجع كبير للقيم الإنسانية والأخلاقية، واندحار حقيقي للأعراف والقوانين الدولية على أيدي واضعي هذه القوانين، وفشل ذريع للمنظمات الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة في القيام بالدور المنوط بها وفقاً لمبادئ العدل والقانون الدولي؟ ما يثير هذا السؤال ليس جرائم الإبادة وحملات التجويع الإسرائيلية وحدها، لأن هذه الجرائم رافقت المشروع الإسرائيلي منذ أيامه الأولى، فهو مشروع استعماري احتلالي وإجلائي قام في الأساس على الجريمة، واغتصاب الوطن الفلسطيني، وتدمير المجتمع الفلسطيني، عبر المذابح والتهجير القسري، لكن ما يدعو للاستهجان والغرابة هو النفاق غير المسبوق في المواقف الرسمية الغربية وعلى رأسها مواقف الولايات المتحدة الأمريكية، التي باتت تقف إلى يمين الحكومة الإسرائيلية، ولا تنسق معها فحسب وإنما تزايد عليها في مواقف العداء للقضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني، لدرجة أنه يمكن القول إن ما يجري ما هو إلا حرب غربية على قطاع غزة وعلى القضية والشعب الفلسطينيين، وإسرائيل ليست إلا قاعدتها العسكرية المتقدمة وأداتها فقط. ووسط هذا المشهد الدموي الذي تشهده الأراضي الفلسطينية سواء في قطاع غزة أو في الضفة الغربية، أو في مناطق أخرى خارج فلسطين، تصدر مواقف أمريكية ليست صادمة بمقدر ما هي مدعاة للسخرية، ومن بين هذه المواقف ما جاء على لسان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب «المتعاطف» مع غزة وأهلها المجوعين، ففي معرض حديثه بشأن زعم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عدم وجود مجاعة في غزة رد قائلاً إنه لا يعرف، إلا أنه، حفاظاً على الموضوعية كما يبدو، أشار إلى صور الأطفال الجائعين في غزة التي تظهر عبر التلفزيون، وقال خلال لقائه برئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر في اسكتلندا: إنه بناء على ما يظهر على التلفزيون، أقول لا تحديداً، لأن هؤلاء الأطفال يبدون جائعين جداً. مذكّراً بأن بلاده تقدم الكثير من المال والطعام، ودول أخرى تُكثف جهودها الآن، مضيفاً أن الأطفال في قطاع غزة يجب أن ينعموا بالغذاء والأمان على الفور رغم عدم إقراره بالكارثة هناك. لكن ترامب يبدو عاتباً بعض الشيء، لأن أحداً لم يشكره على سخائه عندما قال: «قدمنا الكثير من المال لقطاع غزة، لكن لم يشكرنا أحد». وغرائبية هذه التصريحات أنها تأتي في وقت تستمر فيه جرائم الإبادة الوحشية التي ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلي، والتي يشهد العالم فصولها كل يوم، مع مشاهد وصور المجاعة التي توثقها كاميرات الوسائل الإعلامية، لكن الرئيس الأمريكي لم يتأكد من الأمر بعد، وكأن الاستخبارات الأمريكية لا تقدم له تفاصيل التفاصيل عن كل صغيرة وكبيرة، ليس في غزة فحسب وإنما في مختلف مناطق العالم، متناسياً أن هؤلاء الضحايا الذين يشاهدهم على شاشات التلفزيون، وهؤلاء الجوعى هم ضحايا ما تقدمه بلاده من مساعدات وأسلحة فتاكة لإسرائيل. بالتأكيد إن الرئيس الأمريكي ليس جاهلاً بما يجري، فهو رئيس أكبر وأقوى دولة في العالم، وهو يعرف تفاصيل ما يجري في قطاع غزة وغير قطاع غزة، فالمخابرات المركزية الأمريكية ال(سي آي أيه) تعرف كل شيء وتزوده بتقارير عن كل شيء، لكن مثل هذه التصريحات لا تعدو كونها استخفافاً بعقول الآخرين في العالم، وتصوير الولايات المتحدة بأنها حمامة السلام التي تسعى إلى إنهاء المأساة التي يعيشها أهل غزة، علماً بأن من يتابع المواقف الأمريكية يرى أن واشنطن تشجع «إسرائيل» على المضي في حربها على غزة وهو ما بدا واضحاً في تصريحات ترامب قبل أيام، والتي تعتبر ضوءاً أخضر لإسرائيل لاستمرار عدوانها عندما دعا صراحة للقضاء على حركة حماس معتبراً أنها «لم تكن شريكاً في حل تفاوضي، بل عقبة ينبغي تجاوزها»، وكأن حماس هي كل غزة وكل الشعب الفلسطيني الذي يتضور جوعاً وينزف دماً، وهو ما دفع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى الامتنان لموقف ترامب قائلاً إن حكومته تدرس «خيارات متعددة» بالتنسيق مع الولايات المتحدة، بهدف استعادة المحتجزين لدى حماس، وإنهاء سلطتها في غزة بشكل نهائي.وفسرت أوساط إسرائيلية هذه التصريحات بأنها تمهيد لمرحلة عسكرية جديدة أكثر قوة، أو حتى لتوسيع رقعة العمليات الميدانية، وسط دعم أمريكي معلن وغير مشروط. أخيراً، نستطيع القول إن ما يجري ليس إلا تبادل أدوار بين الولايات المتحدة والاحتلال الإسرائيلي في تضليل الرأي العام العالمي حول حقيقة ما يخطط له الجانبان الأمريكي والإسرائيلي ليس لفلسطين وحدها وإنما للمنطقة بأسرها، وأن غزة كشفت حقيقة النفاق الغربي.