الرواية التاريخية عمل أدبي يستند على وقائع أو شخصيات أو فترات زمنية من الماضي، يجد فيها الروائي الفنان بأدواته مادة أولية يعيد تشكيلها ضمن بنية سردية تخضع لمقتضيات الفن الروائي وتقنياته، وهي بذلك تتجاوز التوثيق أو إعادة السرد الأكاديمي، لتكون نوعا من الكتابة يجمع بين متعة الخيال وصرامة التاريخ، ويقدم نبض الإنسان في زمان مضى وسط همومه بلحظته الحاضرة، فالرواية التاريخية لا تسعى لأن تكون مرجعًا بقدر ما تطمح إلى أن تكون مرآةً تعكس من خلالها تحولات الشعوب، وصراعاتها، فنسمع بها صوت المهمشين، وندرك هويتهم في لحظة ولادتها أو حتى انهيارها.
ولكي تكون الرواية التاريخية عملا فنيّا ناجحا، لا يكفي الروائي الكتابة عن الماضي كما يتخيله نسيجا لحكايته التي يسردها علينا، بل لا بد له أن يمتلك خلفية معرفية عميقة عن الفترة التي يكتب عنها تشمل أنماط العيش، ومفردات اللغة، وملامح المكان، وتحولات المجتمع، وعليه أن يغوص في النصوص القديمة والمصادر والشهادات، ليعرف كيف كان الناس يتحدثون، ويأكلون، ويؤمنون، ويتعايشون، لكنه وهو في خضم ذلك ليس مؤرخًا بل فنانا يستلهم الحقيقة ويخلق شخصياته التي لايعنيه إن كانت موجودة فعلاً أو عليه توليدها، ما دامت تعكس صدق تلك اللحظة التاريخية وتنبض بها، فالرواية التاريخية الناجحة لا تكتفي بسرد الحدث، بل تُعيد بناء الوعي به، ولا تجيب على أسئلة المعرفة بقدر ما تطرح أسئلة تتجاوز الماضي نحو الحاضر أو حتى المستقبل، فليست الغاية أن نعرف ما جرى، بل أن نفهم كيف جرى، ولماذا، ولمن، وماذا بقي منه فينا إلى اليوم، ومن هنا تحديدا لا تقدم الرواية التاريخية خطابًا جامدًا، ولا تسجن نفسها في خدمة توجّه ما، بل تحاول أن تمنح صوتًا آخر بديلاً عن السرد الرسمي، وغالبًا ما يكون هذا الصوت للعاديين، المهمشين أولئك الذين لا يظهرون في كتب التاريخ، لكنهم يشكلون نسيج الحياة في زمنهم، لهذا تتطلب كتابة هذا الشكل الروائي الفني توازنًا حساسًا بين الحقيقة والخيال، فالإفراط في التوثيق يحوّل العمل إلى تقرير، والإغراق في التخييل يُفقده صدقيته التاريخية، وبهذا الوعي تتجلى مهارة الكاتب في تحويل المعرفة إلى لحظة درامية، و تبرز قيمة العمل الفني حينها في قدرته على إعادة تشكيل وعينا بالتاريخ، ليشكل بذلك ذاكرة فنية له إذ يفتح الباب أمام قراءة متعددة الزوايا لما مضى، بدلًا من تسليمنا الكامل برواية واحدة قد تكون كتبت في سياق معين ما، فالرواية التاريخية تمنح الذاكرة الجماعية مساحة للتنفس، وتعيد للهوية دورها ككائن متحول وليس كحقيقة نهائية، حين تمنح القارئ فسحة تأمل، وسفرًا عميقًا في الزمن، يعيد له إحساسه بالجذور، ويجعله يرى الحاضر من نافذة الماضي، وهكذا فهي ليست ترفًا أدبيًا، ولا مجرد لعبة سردية، بل هي فعل ثقافي بامتياز، يعيد مساءلة الذاكرة، ويمنح الفن دورًا في نقد التاريخ من داخله حيث العاطفة والرمز والحكاية، وعندما تُكتب بوعي وجدّية وبتقنيات روائية عالية، تصبح شهادة إنسانية تنير العتمة، وتمنح المجهولين في كتب التاريخ فرصة للظهور لا كضحايا، بل كأبطال نسيتهم ذاكرة التاريخ وأدركتهم ذاكرة راوٍ فنان.