كتبتُ هذا النص بعد رحلة بحث طويلة في سير أبرز المنتجين، توقفت خلالها كثيرًا عند هذا الاسم الذي يستحق أن يُروى عنه.
لم يكن اختياري عابرًا، بل جاء من قناعة بأن أثره يتجاوز التقنية إلى الفلسفة التحريرية بحد ذاتها.
في عالم الأخبار السياسية، اعتاد الجمهور أن يربط التأثير بالأسماء الظاهرة على الشاشة: المراسل، المذيع، المحلل. لكن خلف هذه الوجوه، يوجد من يصنع اللحظة ويشكّل المشهد قبل أن يُعرض، من يحرّك الستار دون أن يظهر.
ديفيد بورمان كان ذلك الرجل الذي لا يحتاج إلى الكاميرا ليكون حاضرًا. لم يكن نجماً من النوع المعروف، لكنه غيّر قواعد اللعبة التلفزيونية بصمت، وجعل من موقع "المنتج" سلطة فكرية بصرية، تسبق المعلومة وتعيد صياغتها.
وُلد بورمان في أبريل 1954 في لوس أنجلوس، المدينة التي تُنجب الحالمين، لكنه لم يكن مولعًا بالبريق بل بالمفاتيح التي تُحرّك الصورة. درس في جامعة ستانفورد ثم الصحافة في كولومبيا، وهناك بدأ يُدرك أن المهنة لا تنتظر فقط من يروي الحدث، بل من يبتكر لغته.
انطلق في أواخر السبعينيات مع شبكة ABC، ثم انتقل إلى NBC، منتجًا للأحداث الخاصة، ومُشرفًا على التغطيات الكبرى من غرف تحكم كان يراها امتدادًا لعقله التقني. لكن لحظة التحول الكبرى جاءت عام 2004 حين انضم إلى CNN كمدير تنفيذي للبرامج الخاصة. بعد عام فقط، أطلق برنامج The Situation Room مع وولف بليتزر، وهو أكثر من مجرد نشرة إخبارية. غرفة عمليات ميدانية مفتوحة، تتشابك فيها التحليلات الفورية مع الخرائط المصورة والتقارير اللحظية، وتجعل من الشاشة مساحة تفكير لا تلقين.
وفي عام 2008، خلال الاستعداد لتغطية الانتخابات الأميركية، سافر بورمان إلى شركة متخصصة في تكنولوجيا العرض العسكري. هناك، صادف نموذجًا أوليًا لشاشة تفاعلية باللمس تستخدم في محاكاة المهمات القتالية. عَرف بورمان حينها أن هذه ليست أداة حربية فحسب، بل مادة خام يمكن تحويلها إلى أداة صحفية. عاد بها إلى CNN، وبتعاون وثيق مع المحلل السياسي جون كينغ، قدّم للعالم ما عُرف لاحقًا بـ "الجدار السحري". كان "الجدار السحري" لوحة لمس تفاعلية ضخمة، تُعرض عليها خريطة الولايات، تُكبر وتُصغّر، تُحوّر وتُلون، تتابع النتائج مباشرة وتُسجل احتمالات الفوز والخسارة بديناميكية تُشبه اللعبة الذهنية.
اختصر بورمان آلاف الكلمات في حركة يد واحدة، وأعاد تعريف العلاقة بين الصحفي والجمهور. لم تعد السياسة معقدة، بل قابلة للعرض، للمشاركة، و للفهم. الجدار لم يكن جهازًا، بل رؤية سردية جديدة: أن السياسة يمكن أن تُروى كقصة، وأن الرسوم قد تتفوق على النص في توصيل المعنى.
لاحقًا، تولى بورمان قيادة شبكة Current TV التي أسسها آل غور، نائب الرئيس الأميركي السابق. قاد الشبكة بفلسفته التفاعلية، مزجًا البث التقليدي بمداخلات الجمهور عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ما جعله يحصد جوائز بارزة مثل جائزة روبرت ف. كينيدي للصحافة وجائزة سكريبس هوارد للتقارير المتعمقة.
وفي كانون الثاني (يناير) 2013، بيعت الشبكة إلى الجزيرة في صفقة بلغت 500 مليون دولار، وأعيد إطلاقها كقناة الجزيرة أميركا، لكنها لم تصمد طويلًا، وأُغلقت في نيسان (أبريل) 2016.
ورغم الانتقادات التي طالته من بعض رموز الصحافة التقليدية، الذين رأوا في أدواته نوعًا من تزيين الشكل على حساب الجوهر، ظلّ بورمان متمسكًا بفكرته: أن الصورة لا تلغي المضمون، بل توصله. كان يُردد أن الصحافة بحاجة إلى "إيقاع بصري" يُواكب تحوّل المُشاهد من قارئ سلبي إلى متفاعل بصري.
في حزيران (يونيو) 2023، توفي ديفيد بورمان عن عمر 69 عامًا، بعد مضاعفات جراحة روتينية. لم تُعلن وفاته بضجة، لكنه حضر في كل شاشة، وكل استوديو، وكل حركة أصبع تُحلل خريطة.
سام فيست، رئيس مكتب CNN في واشنطن، وصفه بعد رحيله بقوله: "لم يكن ديفيد يبتكر أدوات، بل يزرع رؤى. الجدار السحري لم يكن تقنية، بل مرآة لعقله اللامع".
رحلة بورمان لم تكن سيرة عمل فحسب، بل فلسفة تحريرية تمشي على قدمين. لم يكن وجهًا على الهواء، بل البصمة خلفه. وإن كان لكل حقبة بطلها الصامت، فإن ديفيد بورمان كان بامتياز، ملك الإنتاج الذي توّجه الخبر.