: آخر تحديث

‏حاوية نفايات!

7
8
7

عندما تتراكم النفايات أمام باب بيتك، فالمشكلة ليست في القمامة وحدها، بل في الثقافة التي أنتجتها، وفي النفوس التي تعايشت معها حتى أصبحت جزءًا من المشهد، لا تثير استياءً ولا تستدعي سؤالًا.
‏انتقلتُ من شقة فخمة في عمارة راقية ذات إطلالة ساحرة، لا بسبب ارتفاع الإيجار، ولا تقادم المرافق... بل بسبب كيس زبالة مفتوح أمام باب جاري!

‏لم تكن مجرد حاوية، بل مشهدًا يوميًا مؤلمًا: أكياس ممزقة، نفايات متناثرة، وروائح كريهة تزكم الأنوف. القطط كانت تعيش "عيدًا يوميًّا" بين أكياسها، والفئران تعقد صلحًا بين المطبخ والشارع، والروائح تفوح كما لو كنا في مكب نفايات بشري!

‏كان ينثر القمامة بشكل عبثي أمام شقته، دون كيس، دون غطاء، ودون أدنى شعور بالذوق العام أو احترام الجيران.

‏حدثته ذات صباح بهدوء:
– "أخي، هلا وضعت القمامة في كيس وربطته جيدًا؟ لا نريد مناظر مقززة كل يوم!"
‏– فرد بابتسامة ساخرة: "يا رجل! أأنت لا ترى؟ البلد كلها زبالة، يعني جاءت على هذه؟!"
‏– أجبته: "فلنبدأ إذن بأنفسنا قبل أن ننتقد البلد وأهلها، لو اعتنينا بالزبالة أمام بيوتنا لوضعنا بذرة لغيرنا للعناية بنفاياتهم. ابدأ بنفسك يا أخي ثم لُم غيرك."
‏– رد بسخرية: "لا... أنت أحسن ترشح نفسك عمدة للحي!"

‏لم أُكمل النقاش. بل رشّحت نفسي... للرحيل!

‏حين انتقلت إلى شقة أخرى، في عمارة أخرى، كان أول ما فعلته بعد استقرارنا مبادرة صغيرة لكنها تحمل أملًا كبيرًا: وضعتُ أمام أبواب جيراني في الطابق حاويات نفايات نظيفة، ومعها أكياس تكفي لشهر، واستأذنتهم أن أستأجر من ينظف ممرات الدور كل بضعة أيام.

‏كانت هدية متواضعة، لكنها رسالة صامتة: "هنا نبدأ صفحة نظيفة، نعتني ببيتنا المشترك". لقد تعلمت من التجربة المرة ألا أفرض، بل أبدأ بنفسي وأُقدّم الحل عمليًا.

‏فوجئوا وسألوني، فقصصتُ عليهم حكاية الزبالة التي جعلتني أرحل عن عمارة كانت قطعة من الجمال المعماري. وقلت لهم:
‏"ليست المشكلة أن تكون الشوارع قذرة، المشكلة أن نشارك في قذارتها ثم نلعنها!"
‏"فلنبدأ بأنفسنا، بباب شقتنا، بأنفاسنا، وبرائحتنا الأخلاقية أولًا".

‏النظافة ليست مسألة بلدية، بل مسألة وعي جمعي وضمير شخصي.
‏من يرفض إغلاق كيس النفايات قد يرفض – في الوقت نفسه – إغلاق فمه عن القيل والقال، أو عقله عن السموم الفكرية، أو قلبه عن الحقد والتعصب.

‏القمامة – في بعض البيئات – تبدأ من الداخل!

‏تذكرت حينها ما كتبته تحت هاشتاقي الخاص ⁧‫#خبر_تعليق‬⁩:
♦ خبر: "فنان إنجليزي يحوّل القمامة إلى روبوتات شخصيات كرتونية."
♦ تعليق: "نحن عندنا القدرة على تحويل الإنسان نفسه إلى قمامة!"

♦ نعم، عندما نتخلى عن مسؤوليتنا، وعن احترام الجوار، وعن النظافة المادية والمعنوية، وعن أبسط قواعد العيش المشترك، نكون قد حوّلنا أنفسنا – لا أشيائنا – إلى مصدر للتلوث والضرر.

‏وتذكرت أيضًا ما قلته في تغريدة حزينة ساخرة:
♦ "خمسة وخمسون مليون سنة تحمل وحيد القرن الأبيض فيها الحياة وعاشها وتمتع بها بالطول والعرض. لكنه لم يحتمل بضعة قرون عاشها بين البشر... فقرر الانقراض!"
♦ نصيحة: انقرض طواعية، قبل أن تُطرد!
♦ و"يا بخت من انقرض وخفّف!"

‏وفي النهاية دعني أقول:
‏– إن أول خطوة في إصلاح أي بلد تبدأ من باب بيتك... لا من نشرة الأخبار.
‏– من كيس الزبالة المغلق... لا من شتائم الساسة.
‏– من أن تقول: "أنا المسؤول"... لا أن تردد: "البلد كلها كذا!"

‏– النظافة التي أتحدث عنها ليست فقط نظافة الشوارع والأرصفة. إنها نظافة القلب أولاً، نظافة النية، ونظافة التعامل.
‏– الإيمان بأن الاهتمام بحاويتنا الصغيرة أمام الباب هو خطوتنا الأولى لإصلاح "البلد كلها زبالة".

‏فلنبدأ من عتبة دارنا، بحاوية مغلقة، وكيس مربوط، وابتسامة للجار، وصبر عند الحوار. وإن وجدت نفسك في بيئة "تُنثر" فيها القِيَم كما تُنثر القمامة، وتُستهزأ فيها بالمحاولات الطيبة، فتذكر درس وحيد القرن: قد يكون "الانقراض" إلى مكانٍ أفضلَ هو أجمل أشكال المقاومة وأكثرها حكمة.

‏♦ ابدأ بنفسك… فإن فعلت، فلن تضطر للرحيل!
‏♦ وإن رحلت… فليكن إلى مكان يليق بنظافتك، ظاهرًا وباطنًا.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.