انطلق اليوم من مقرّ الأمم المتحدة في نيويورك مؤتمر دولي لإحياء مسار "حلّ الدولتين"، برعاية مشتركة من المملكة العربية السعودية والجمهورية الفرنسية، وبمشاركة فاعلة من أطراف إقليمية ودولية. ويُعد هذا المؤتمر فريدًا من نوعه، ليس فقط لكونه يُعقد من قلب المنظمة الأممية، بل لأن المملكة ترعاه هذه المرة من موقع "الشريك الدولي" لا الطرف الإقليمي وحسب، في تأكيد واضح على تحوّل الرياض من داعم تقليدي إلى فاعل مركزي في صياغة الحلول وبناء التوافقات العالمية.
المملكة العربية السعودية، التي ظلت لعقود طرفًا داعمًا ومناصرًا للقضية الفلسطينية، تعود اليوم بصفتها مبادرًا وموجّهًا، مستندة إلى مشروعها السياسي الأوسع في إعادة بناء التوازنات الإقليمية من موقع المركز لا الهامش. غير أن هذا الدور ليس وليد اللحظة، بل هو امتداد طبيعي لمسار سعودي طويل في السعي لحل عادل وشامل، بدأ بمبادرة الملك فهد عام 1981 التي أرست مبدأ انسحاب إسرائيل الكامل مقابل السلام وضمان حقوق الفلسطينيين، وتبلور بشكل أوضح في مبادرة الملك عبدالله عام 2002 التي اعتمدتها القمة العربية في بيروت.
ما تقوم به المملكة اليوم ليس خروجًا عن هذا المسار، بل امتداد واعٍ له، يُعيد تثبيت المبادئ الأساسية للحل العادل في إطار أكثر فاعلية وواقعية سياسية، يربط بين الشرعية الدولية، ومفهوم السيادة، والعدالة، والدور العربي المركزي في صياغة المسار، بعيدًا عن منطق التعطيل أو التهميش الذي حكم العقود السابقة.
أما فرنسا، فإن دخولها شريكًا في رعاية المؤتمر يعكس رغبتها في استعادة موقعها كقوة مسؤولة في النظام الدولي، تبحث عن توازن بين مصالحها السياسية والتزامها الأخلاقي. ولعل شراكتها مع السعودية — لا مجرّد الحضور — تشير إلى إعادة تشكيل المعادلة الدولية بعيدًا عن انفراد واشنطن بمسارات التفاوض التي طالما افتقرت إلى الحياد.
يأتي المؤتمر كمحاولة لإعادة تأهيل المسار الفلسطيني على أسس جديدة، بعدما تم تجريفه من قبل مشاريع إقليمية وأممية حوّلته من قضية تحرر وحق تقرير مصير إلى ملف إداري أو أمني. المبادرة السعودية هنا تعيد توجيه البوصلة نحو الثوابت: الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، ورفض منطق الحلول المجتزأة أو الصفقات أحادية الجانب.
ما تراهن عليه السعودية لا يقتصر على مخرجات المؤتمر، بل على قدرته في إعادة تشكيل أفق الفعل السياسي، ونقل القضية الفلسطينية من حالة الجمود الدولي إلى موقع المبادرة المؤسسية، وفق منطق السيادة والعدالة لا بمنطق التنازلات أو إدارة الأزمة. السعودية، المستندة إلى مكانة دولية متصاعدة، تسعى لتحويل هذا الممكن إلى "فعل مؤسسي" يُعيد وضع فلسطين على طاولة القرار الدولي كقضية سيادة وعدالة، لا كعبء أو ملف تفاوضي ثانوي.
في لحظة بدت فيها فلسطين منسية في حسابات كثير من الفاعلين، تعيد السعودية "بالشراكة مع فرنسا" إحياء المسار من قلب الشرعية الدولية، وبلغة تتجاوز الشعارات الإنشائية نحو مقاربات واقعية وعادلة. ما يجري اليوم في نيويورك ليس فقط مؤتمرًا، بل علامة فارقة في إعادة بناء النظام الإقليمي والدولي على أساس من العدالة، ويعيد تذكير العالم بأن أي توازن لا يعترف بفلسطين كدولة هو توازن ناقص، وأي سلام لا يشملها هو سلام مؤقت.