: آخر تحديث

نظام العراق السياسي يختبئ في دولاب القمة 34

17
15
12

كشفت القمة العربية الرابعة والثلاثين التي أُقيمت في بغداد أنَّ المُراهنة المكيافيلية على "الحظ الذي هو حاكِمُ نصف أفعالِنا" لم يعُد مولعاً بتوقيع "كارت بلانش" إضافي لصالح نظام البلاد السياسي. أقصد تحديداً ذلك الحظ الناتج من توازنات القوى العالمية. والسبب بالعودة إلى مكيافيلي "لا يريد الرب أن يفعل كُلَّ شيء"؛ أي السيد الدولي.

انخفاض نسبة التمثيل الدبلوماسي للدول العربية في هذه القمة ممكنٌ سكُّه بمصطلح "التعب من الصراع" في أروقة السياسات العراقية. الثلاثي كينينمونت، ستانسفيلد، سري توصلوا إلى "إنَّ اللاعبين السياسيين العراقيين ما زالوا يستغلون العلاقات الخارجية للعراق كأداة لاكتساب السُلطة داخل البلاد في المقام الأول، بدلاً من تعزيز مصالح العراق داخل المنطقة". اللطيف، إنَّ هذا الرأي الثلاثي الذي قيل قبل أكثر من عقد تقريباً، ما زال شاباً ولم يُصب بالشيخوخة. خلال اليومين الماضيين وللتغطية على العوائد السياسية المُنخفِضة لهذه القمَّة، سرَّب رئيس الحكومة الحالية توقعات لإحدى الفضائيات العراقية بأنَّه يتوقع الحصول على "مئة مقعد في الانتخابات النيابية القادمة".

مستشارو الحكومة السياسيون لم يجتهدوا كما يبدو في الحصول على ضمان الدعم الدولي. المستشار السياسي مُطالب بحسب فريدريك فيسلاو السويدي بـ"انتباه ثابت لمكافحة "التعب من الصراع" ومنع "تغيُّر المصلحة لمسائل أخرى تبرز ملامحها على الأجندة الدولية".

زيارة قائد فيلق القدس الإيراني إسماعيل قاآني لبغداد قبل القمَّة كان تعليلاً آخر ألمعُ بريقاً وأكثر صخباً. الفضاء الإعلامي العراقي المُتحمِّس دائماً لاستضافة الراعدين التحليليين حمَّل زيارته بين قوسين: فتح القوس كان إقناع المليشيات الإيرانية بعدم إحراج الحكومة، وغلق القوس بتوصيل رسالة للحاضرين بأن شمس طهران لم تتفق بعد مع سماء المسرح الدولي على كيفية لَعِب الغروب الأمثل في بغداد.

قاآني بعد مقتل القائد السابق لفيلق القدس قاسم سليماني، تقلَّص دورهُ بسبب ضُعف الحضور والكاريزما عنده مُقارنةٍ بسلفِه كما هو شائع. النتيجة، انخفضت رُتبة حضوره من مُلهم كسلفِه إلى وسيطٍ سياسي لا يبتكر الحلول. هو يأتي في أحيانٍ كثيرة كسائقٍ لعربة إسعافٍ دبلوماسيَّة. يترجَّلُ منها سريعاً ليُخرِج شِفاه التوازن الإيراني الدقيقة، مُجبراً اللاعبين السياسيين المحليين على تقبيلها. بات مُجرَّد لمبة يستخدمها الأمن القومي الإيراني لإشعال الضوء الأصفر لحلفائه كي لا يدهسوا الخط الأحمر لنفوذ طهران الحيوي في بغداد.

صور "قادة المقاومة" الأموات والأحياء انتشرت في بغداد قبل شهر تقريباً من موعد انعقاد القمَّة. تزامن رفع الصور مع كبس رئيس النظام السوري الجديد بـ"الجولانية" في رسائل طائرة على ساحة الميديا العراقية والعربية. سببُ الرفع والكبس كان ضرورياً للمليشيات كي تفهم إن بات دورها لا يعدو كونها مُقبِّلات في جولات التفاوض النووية بين واشنطن وطهران، أم أنها تستأهِلُ قيمة وجبة عشاء دبلوماسي بين العاصمتين تخرجُ منها عِظاماً سياسية بعد الانتخابات القادمة. الخوف من انخفاض ثمن رُتبتِها من "مقاومة" إلى تمرُّد، كان يستدعي كبساً ورفعاً يضمنُ جلب طهران. بحسب فيسلاو إنَّ على "الوسيط أن يكون جاهزاً للمواجهة حيث إنه ليس من غير المألوف للأطراف محاولة اختبار قوَّة الوسيط وتحديد قوته أو قوتها الضاربة".

المليشيات الإيرانية لا تفهم بأنَّ قوارب "سياسيي الخط الأول" هي الوحيدة المُتاحة لهم وليست نوح الإيرانية. عموماً، طهران ما عادت مهتمة بتوفير موارد دبلوماسية لهؤلاء وهؤلاء كي تفرح بوجود صبيان نيابيين وبنات سياسات خارجية لا مسؤولة، تقوم هي كما شاهدنا مِراراً بترشيدها أمام أنظار العالم، ليعلق العراق في الخطَّاف الإيراني باسم الضرورة الدولية.

السبب الآخر لانخفاض قُدرة القمَّة الرابعة والثلاثين على تعبئة رصيد بغداد الدبلوماسي، أنها قد سُبِقت وبأيّامٍ قليلة بفضيحة ميناء خور عبد الله التميمي، والتي ساهمت أيضاً في تصنيف العواصم العربية لسياسات بغداد الخارجية تصنيفاً لم يكُن قادراً بالحصول ولو على درجة جيَّد. إميل خوري قال عن أهمية التصنيف "إنَّ أحد أهم أوجه العلاقات بين الدول هي تصنيفُ كلّ واحِدَةٍ منها للأخرى، فإذا كان التصنيف في أعلى مراتب هرم التقييم السياسي تصرفت الدولة معها بشكلٍ يختلف عمّا إذا كان تصنيفُها متوسطاً أم متدنياً".

سياسيو الخط الأول في العراق فتحوا النار على حكومة محمد شياع السوداني في حقل التحضيرات للقمَّة كي يمنعوه من الارتقاء إلى واحدٍ منهم بعد الانتخابات القادمة. هكذا، يبدو بأنَّ بعض أصحاب المصلحة في الحِفاظ على صعود السوداني زعيماً ردَّوا بفضيحة الميناء. تبادل النيران أدَّى إلى أن يخسروا ما تواطئوا عليه منذُ مدَّة بأن يقدِّموا المليشيات الإيرانية ككبش فداء لإيمانهم الدولي المتأخِّر. أرادوا أن يُثبِتوا بأنهم وصلوا إلى المرحلة التي قال روجر أوين عنها نقلاً عن برونو ايتيان "إنَّ من الديناميات المحتملة أن يحاول المسؤول السياسي الذي يتولى منصباً في السياسة القومية معتمداً على تأييد جماعة مصالح مهمة أن يقلل من اعتمادهِ عليها بمرور الوقت".

زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى عواصم الخليج العربي غطَّت بدورها على القمَّة. الأهم بأن  ترامب قد أصبح يمتلك الوقت والطاقة الدبلوماسية كي يضرِب النظام السياسي في بغداد على رُكبتيه ليُقعِّده أميركياً. لن يكون بحاجةٍ أبداً إلى التهديد والوعيد. بغداد على الأرجح ستُرسل حامل حقيبتها الدبلوماسية إلى واشنطن تحت يافطةٍ ما في وقتٍ ليس بالبعيد أو القريب جدّاً عن الانتخابات القادمة المزمعة.

وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين كان قد نجح في شباط (فبراير) 2023 عندما كان يزور الولايات المتحدة، للتحضير لأعمال تعميق قناة "اتفاقية الإطار الاستراتيجي" إذا صحَّت اللفظة من المستوى العسكري إلى مستويات أُخرى كالاقتصادية، في الاستيلاء على اهتمام ِصُنَّاع القرار الأميركيين من دبلوماسيين سابقين، مراكز بحوث و... إلخ. بتوصيلِ آراءٍ شيَّقة لهم مثل "الإيرانيون باتوا يحترموننا أكثر. العملية السياسية في العراق تستأهلُ ثمناً ما دام رؤساء الحكومات فيها أحياء ولم يُصفّي بعضهم الآخر جسديَّاً، وبأنَّ الحِراك الشعبي ضد النظام في تشرين الأول (أكتوبر) 2019 قام به ناشطون غيرُ مُدركين لما عاناه العراق زمن النظام السابق قبل 2003". وليس مُستبعداً أن ينجح مرَّة ثانية، لكن لا بالحديث عن الاحترام و الرؤساء الأحياء أو التقليل من شأن المُعارضة بل بالصفقات.

بغداد ستندفع إلى تطبيق نصيحة الكاردينال ريشيليو "تفاوض دون توقف، علنيةً أو خفاءً، وفي كُل الأماكن". البعيد نسبياً هو يقين بعض المُراقبين بأنَّ واشنطن ستلجأ إلى رؤية النظام السياسي العراقي بثنائية الخير والشر، لأنها وبحسب باسكال بونيفاس لن تُطبِّق "معايير ديزني على العلاقات الدولية". كما أن نُخبة بغداد الحاكمة تعشقُ الصفقات كالرئيس ترامب و تتفوق على قارون بصناعةِ بقائها السياسي الحلال من المال العام.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.