ابتلينا منذ أواخر السبعينيَّات من القرن الماضي بداء مميت كان وبالاً على كل قضايانا: سياسة واقتصاداً ومجتمعاً وثقافة وفنوناً وحتى رياضة، نعم حتى الرياضة لم تسلم من زحفه. لقد زحف على عقولنا وجلودنا وكل خلايانا ولم نُشفَ منه حتى اليوم، فقد تم غسل أدمغة جيل كامل بأيديولوجيات عفا الزمن عليها وتخلصت من بقاياها أمم كثيرة، ومن ثم نهضت والتحقت بركب العلم والبحث والتقدم والحضارة. لقد تم تديين المجتمع وشطب اسمه من قائمة ركب التقدم والمدنية والعلم وتنحيته جانباً لينضم إلى قائمة المستهلكين المهمّشين المتسوّلين، قائمة المجتمعات العاطلة العالة على الكوكب.
أمَّا مدى عمق المأساة فقد بلغ مداه في الثمانينيَّات، والثمانينيَّات لمن لا يعلم كان العقد الحاضن لهذه التيارات الخبيثة التي عشّش فكرها في عقول ونفوس كثيرة استراحت لفكرة التواكل والقدرية وأعفت نفسها من عناء البحث والعمل، كما استغلوا تراثيات "سبحان من سخّر لنا هؤلاء لنستمتع بمنتجاتهم وابتكاراتهم ومجهودهم وبحثهم بينما نحن ههنا قاعدون". وتحتدم الساحة الآن بصراع تعدّى مستواه مسألة تشجيع نادٍ لكرة القدم هذا أو ذاك، فقد تم تديين هذا الصراع، وما دام تم تديين أي قضية، فالمصير المحتوم هو تحويل الصراع إلى صراع كفرة ومؤمنين، أي الزج باسم الله في الصراع. وقد انتشرت في الثمانينيَّات طرفة خبيثة تدل بجلاء على الحالة، حيث يسأل مشجّع الزمالك مشجّع الأهلي: "أنت أهلاوي أم مسلم؟"، فإذا ردّ بأنه أهلاوي فقد خرج عن الملّة، وإن ردّ بأنه مسلم فقد أنكر ناديه، وهو ما يُعتبر خروجاً عن الملّة أيضاً. وأصبح الأهلي ديناً موازياً، والطرفة المأساوية بالطبع تنضح بإسقاط واضح وخبيث على عقائد الآخرين التي لا يجب ذكرها في أيّ مقاربات.
إقرأ أيضاً: في ظلال المؤامرة
وقد زحف المتأسلمون على كل نشاط يخدم أيديولوجياتهم بتمويلات مشبوهة من كيانات اقتصادية شهيرة تحتكر الأسواق، حيث عشّشوا في كل نشاط أو كيان جماهيري ذو شعبية كثيفة ليمتطوه ويستغلوه في تنفيذ مخططاتهم. وبالطبع كان النادي الأهلي المصري بتاريخه وعراقته هدفاً مخططاً مسبقاً لاختراقه، وقد كان. وفي البدء استمالوا بعض لاعبيه ممن ينتمون للأوساط الشعبية ومحدودي الثقافة، وهم أول من ابتدعوا الممارسات الدينية في الملاعب، ثم اخترقوا روابط المشجعين بأولتراس ممول منهم ومنظَّم بواسطتهم، ومن ثم استولوا على مدرجات المشجعين بهتافات سياسية وأحياناً دينية، وأصبحت كاريزما صالح سليم ورفاقه تراثاً من الماضي. واخترق الشيوخ أروقة النادي وأندية أخرى (للدعوة)، وهجره أعضاؤه المسيحيون الذين كانوا من أوائل مؤسسيه. ونسِي اللاعبون دورهم ورسالتهم الرياضية، وتقمصوا دور الدعاة، وبدأوا بممارسة ضغوط دينية على زملائهم من جنسيات أفريقية لأسلمتهم بإغراءات مالية. بعضهم رحل، وبعضهم رفض وتم تهميشه، وبعضهم هرب وترك مستحقاته وقدم شكوى أمام الاتحاد الدولي. وقد تدحرجت كرة النار حتى وصلت إلى مذبحة بورسعيد، ولا أظن أنَّ هذا التيار الذي تغلغل في النادي العريق سيتركه إلا بعد انهياره وتسويته بالأرض كما هي عادتهم.
وتحت الشعور بالزهو من كثافة مشجّعيه وتنظيمهم، تسلّل إلى النادي شعور زائف أنه كيان يمكن أن يناطح الدولة، فبدأ باصطناع أزمات في توقيتات حساسة تمس أمن الوطن. وبصفتي أهلاوياً منذ أكثر من نصف قرن، أتوقع انهيار مستوى النادي العريق ما دام هذا التيار مسيطراً على مفاصله، كما انهار أي كيان أو أي مؤسسة أو أي دولة سيطرت هذه التيارات التحتية عليها، والصورة في كل محيطنا الجغرافي والسياسي لا تحتاج إلى توضيح.
إقرأ أيضاً: أعراق قلقة
إنَّ تديين النشاط الإنساني هو جريمة عنصرية بغيضة، توقف وتجمّد أي بادرة ابتكار أو تجديد أو بحث أو اجتهاد في أي مجال من مجالات النشاط الإنساني، علاوة على إقصاء أي مختلف في الدين أو المذهب من أي محاولة اندماج أو مشاركة. ونتذكّر جميعاً حتى أواخر السبعينيَّات كانت كل الملاعب، ومنها كرة القدم، مزدحمة بمواهب من كل الأديان والأجناس: مسيحيين وأرمن ويونانيين، واليوم لا يوجد لاعب واحد غير مسلم في أي من درجات الدوري الثلاث، أي مائة فريق، وبالطبع لا يوجد في مراكز الشباب الحكومية في طول البلاد وعرضها، فقد استولت عليها مفارز منظّمة من الإخوان والسلفيين وحوّلتها إلى بؤر تجييش تعصّب وبث الكراهية للدولة والمجتمع. ولا عزاء للرياضة، ولا للحضارة، ولا للثقافة. لكِ الله يا بلادي.