محمد ناصر العطوان
في المدينة النبوية، حيث تتشابك الأرواح قبل الأجساد، آخى الرسول ﷺ بين رجلين، أبي الدرداء الأنصاري، السيد الحكيم القاضي الشريف، وسلمان الفارسي، السيد الحكيم الزاهد المتأمل الذي حمل في روحه عبق رحلته من فارس وصولاً إلى المدينة المنورة بحثاً عن نبي يخرج في زمانه، كانت أُخوتهما نواة لعلاقة حوّلها الزمن إلى حوار روحي خالد، علاقة تخطت حدود المكان، ونسجت عبر الرسائل المكتوبة بينهما حكمة الحياة، ودرساً في معنى الخير والنور الذي خرج من شقوق حوائط المساجد، ولطالما كان سلمان ناصحاً أميناً لأبي الدرداء، ولطالما كان أبو الدرداء منصتاً ومتأملاً في كلام سلمان، وشهدا معاً مشاهد جعلت علاقتهما تسمو وتعلو.
عندما انتقل الرسول ﷺ إلى الرفيق الأعلى، لم تنته مسيرة الصداقة والأخوة؛ بل اتسعت، فحمل سلمان، راية العلم ورحل إلى الكوفة، حيث صار والياً على المدائن، يُعلّم الناس أن التقوى ليست في رداء السلطة، بل في نقاء القلب، بينما رحل أبو الدرداء إلى الشام، قاضياً وعالماً، ينثر حكمته بين جنود المعرفة وأهل المساجد.
المسافة بين الكوفة والشام لم تكن سوى جسر من حروف متبادلة بين الاثنين، ورسائل لا تنقطع، ليس على اعتبارها رسائل بين والٍ وقاضٍ، ولكن رسائل بين صحابيين آخى بينهما الرسول، عاشا في بيت واحد، فتعمقت صداقتهما إلى آخر المنتهى.
ينقل لنا في كتابه «سير أعلام النبلاء» الإمام الذهبي، ما أخرجه الإمام مالك في «الموطأ» عن يحيى بن سعيد، وأنا هنا أجمع روايتين في واحدة، كتب أبو الدرداء إلى سلمان:
«سلامٌ عليك، أما بعد، فإن الله رزقني بعدك مالاً وولداً، ونزلت الأرض المقدسة، هلم إلى الأرض المقدسة».
كتب سلمان إلى أبي الدرداء:
«اعلم أن الخير ليس بكثرة المال والولد، ولكن الخير أن يعظم حلمُك، وأن ينفعك علمك، وأن الأرض لا تُقدس أحداً، وإنما يُقدس المرء عمله. وقد بلغني أنك جُعلت طبيباً، فإن كنت تُبرئ، فنِعِمَّا لك، وإن كنت متطبباً فاحذر أن تقتل إنساناً، فتدخل النار».
لطالما كان سلمان ناصحاً لأبي الدرداء، ولطالما كان أبو الدرداء منصتاً له، حتى في اليوم الذي طلب سلمان منه أن يفطر عن صيامه، وينام عن قيامه؛ حيث قال له: «إن لبدنك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لنفسك عليك حقاً...»، وصولاً إلى هذه الرسالة التي ينقلها الذهبي.
هذه الرسالة لم تكن مجرد نص، بل كانت «مرآة» تُري أبا الدرداء، وجوه الخير الخفية، فالحلم يُسكّن عواصف النفوس، والعلم النافع يُحيي القلوب قبل الأجساد، والأرض مهما عظُم شأنها لا ترفع الإنسان إلا بعمله... أما التحذير الأخير –عن مهنة الطب «القضاء»– فكان تذكيراً بأن الإتقان أمانة، والجهل جريمة.
وظل أبو الدرداء يرسل رسائله لسلمان، وظل الحوار بينهما يتدفق كالنهر، سلمان، يُذكّر صاحبه بأن الدنيا زاد رحلة، وأبوالدرداء، يروي له عن دروس القضاء في الشام، حيث يتعلم أن الحكم بين الناس يحتاج إلى قلب يقظ كالسيف، ورحمة دافئة كالشمس.
توفي سلمان أولاً، في المدائن سنة 33 هـ، تاركاً وراءه إرثاً من الزهد الذي يُذكّر بالأنبياء، وفي السنة نفسها لحق به أبوالدرداء، في الشام، لتنتهي الرحلة والأخوة الأرضية، وتبقى الرسائل شاهداً على أن الصداقة الحقيقية لا تُخلَّد باللقاءات، بل بالحكمة المتبادلة وخير النصيحة.
لم تكن رسائل أبي الدرداء وسلمان، مجرد حبر على ورق، ولا زخرفات لغوية لا تسمن ولا تغني من معنى، بل كانت مدرسة متنقلة علّمت الأمة أن الصداقة الإيمانية تُبنى على التناصح، لا الترفيه، وأن الحكيمين إذا افترقا، حوّلا الفراق إلى جسر يعيد الناس إلى جوهر الدين وهو «إصلاح النفس قبل إصلاح الأرض»، وأن كل ما لم يُذكر فيه اسم الله... أبتر.