عبدالله الزازان
تداخل الأديب سعد البواردي، في مراحل زمنية مختلفة من حياته الأدبية، مع الاتجاهات والمذاهب الحديثة، وقد نسبه بعض النقاد إلى المذهب الواقعي، حيث يرون أنه تأثر به في تجاربه، الذي انعكس على معظم أشعاره، إذ جاءت مطابقة للواقع الموضوعي، وإن كان ذلك الوصف ليس دقيقاً، فمعظم تجاربه تخضع للاتجاه الرومانتيكي. تنقل البواردي ما بين اللون الشعري النثري، في تعاقب مرحلي بينهما، حيث تفاعلت فيه التجارب، وخطى بتجربته خطوات واسعة، حيث طرح قضايا وموضوعات جديدة، وأضاف وسائل تعبيرية حديثة، إلا أن المقالة البحثية والقصيدة الحديثة كانتا الأكثر ثباتاً في تجاربه، ولكن هذا لا يعني أن تقدم شخص ما فكرياً أو اجتماعياً أو أكاديمياً - وأنا هنا لا أقصد البواردي - يصاحبه في العادة رقي فني، فقد يكون شخص ما موهوباً وبارعاً فنياً ومتراجعاً فكرياً، ولكن هذا لا يعيب موهبته، فقيمة الإبداع الفني لا علاقة لها بفكر الكاتب أو الشاعر ولا بعلميته ومكانته ووجاهته، وإنما بموهبته، ولكن الناس أحياناً تتعاطف مع الأديب الآخذ من التثقيف والوجاهة بنصيب وافر سواء أكان شاعراً أو قاصاً أو مسرحياً أو روائياً أو ناقداً أدبياً، رغم ضعف مستواه الفني، وهذا خطأ منهجي. طرق البواردي مختلف أصناف وأنواع الشعر، ولم يتبق عليه في ذلك الوقت إلا أن يجرب موهبته في الشعر الشعبي. فأثناء إشرافي على الصفحات الأدبية التي كان تعنى بالشعر الشعبي في صحيفة «الجزيرة المسائية»، أرسل إليّ سعد البواردي قصيدة طويلة سماها «الألفية» قائلاً: إنها أول تجربة له في الشعر الشعبي وآخر تجربة، مهدياً إياها لعبدالله بن خميس ليستأنس برأيه، يقول في مطلعها: لي قصة تبدي بألف الوجيع نقشتها على صحايف ضلوعي جفت دواتي يوم جفت دموعي ونشرت كاملة في الجزء الأول من كتابي «مدن الشعر». وبعد أن قرأ بن خميس «الألفية» قال عنها: إنها تجربة فاشلة، كنت أظن أن سعد البواردي سوف يكون شعره الشعبي جيداً أو قريباً من الجودة، بحكم أن شعره الفصيح جيد، وقد قال الشعر منذ زمن طويل وأبدع فيه وأعاد وخاض تجربته بما له من إلهام وقوة نظر في هذا المجال، وبما لوالده- رحمه الله- من قدح في هذا المجال، قل أن يجاريه فيه غيره والعصي من العصية، ويندر أن يوجد في بيئته ومحيطه من يجاريه في هذا المجال، وبما أن الأسرة كلها أو جلها أسرة شعر لهم من الجودة والمكانة الشعرية في المجال الشعبي ما لا يخفى على أحد، وبما أن الرجل سعد بن عبد الرحمن البواردي عاش في هذا المحيط وتقلب في هذه البيئة، كنت أظن بل أكاد أجزم أن شعره الشعبي سوف يكون جيداً وقوياً ومتيناً، ولكن ويا للأسف وجدت هذه الألفية كما سماها صاحبها، باردة، متخاذلة لا تعدو أن تكون رصف كلام لا يخرج عن تجربة متخاذلة، فقوة المعنى، وقوة المبنى وقوة الشعر، الذي يرجى من مثله لا تلمسه فيها، وماذا تجد فيها غير رصف كلام لا يؤدي غرضا ولا يمت إلى روح الشاعرية بصلة، قرأتها وقرأتها فلم أجد غير رصف كلمات مكرورة، وجمل مبتورة تفقد الطعم والرائحة واللون، وإذا أطاعني صاحبي الأستاذ سعد البواردي فليعتبر هذه إلى الأبد، وإذا شاء معاودة التجربة فليعاودها حتى يستقيم له شعره، ويطيب إنتاجه، ويجاري شعر الآخرين ولو مجاراة، ودعك من التبريز، وإلا فليدع الشعر إلى غير رجعة، ولينظمه شعرا فصيحاً صحيحاً موزوناً مقفى، فهو المجال الذي يجيد فيه ويلذ طعمه وتطيب رائحته، ولا غضاضة، ولا مشاحة: إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع ولقد محضتك النصح يا أخي سعد وقلت ما أعتقده في هذا المجال، ولا أراك تتهمني في إخلاصي، ولا أراك أيضاً تتهمني برداءة الذوق، أو قلة المعرفة في هذا المجال، وحسبي أنني قلت كلمتي وحسبك أنك قرأتها، وحسبك أنك ستقف منها موقف المنصف، والله يرعاك. ورد سعد البواردي على ما كتبه عبدالله بن خميس، قائلاً: وتلك هي حكايتي مع الزميل الصديق عبدالله بن خميس، الذي ألوى بقلمه اللاهب على تجربتي الشعرية الشعبية الأولى فأجهز عليها أو كاد، وقد استأنست برأيه حولها. لقد ارتضيته حكماً- بفتح الكاف- وتقبلته حكماً- بسكونها- ولكن من حقي عليه أن يأتي ذلك الحكم من منطلق نقد منهجي يتناول البنية الشعرية للقصيدة، وتركيباتها اللفظية، أوزانها، معانيها ومقاصدها، تماماً كما يتناول الطبيب مهنته ورسالته فيحدد الأسقام والأوجاع ومواطن العلة في جسد المصاب، ولكنه أبداً- عفا الله عنه- أعطى حكماً تعميمياً قاسياً قاتلاً، لا يتفق وأسلوب النقد العلمي المنهجي الهادي المهدي. لقد ذكرني وقد انتزع من تجربتي الشعرية الشعبية الأولى كل شيء وفي عنف جارف، ذكرني بذلك المعلم القديم في مدرسة الكتاتيب وهو يهوي بلوحه الخشبي على وجه طلابه هنا وهناك، ليشج به رأساً، أو ليكسر به ذراعاً لمجرد تلكؤ في إجابة، أو خطأ في إجابة وتكون رهبة الموقف، وضياع الفكرة، والإجهاز على الخيط الرفيع الموصل بين الاثنين. وذكرني أيضاً بذلك المراجع لطبيبه، وقد اشتكى صداعاً برأسه، الذي أحاله الطبيب إلى قبره، بعد أن انهار وقد أعطى له كل أمراض وأسقام الدنيا دفعة واحدة، دون أن يمنحه ولو فتحة واحدة لأمل الحياة. إن أسلوب التقويم يا عزيزي الناقد، لا يقر بأسلوب التهديم، ولو أننا أخذنا بقاعدة الحكم من منطلق التعميم، وبمبدأ القرع الحاد أمام نافذة السمع دون ملامسة رافعة، وبصرعة القسوة في الأحكام أمام كل محاولة مبتدئة مهما كانت بدايتها لأفرغناها من كل محتوى للمحاولة والطرح ولأجهزنا على كل بواعث الثقة والأمل المستجد في أعماق صاحبها نحو المستقبل بكل معطياته ومحصلاته. أيها الصديق الناقد. لا أدعي أبداً أن تجربتي الشعرية الشعبية لم تكن بدائية في عمر الطفل الوليد تفتقر إلى كثير من عناصر القوة والثبات إلا أنها بالقطع تملك نبضاً دافئاً وليس بارداً أو ميتاً كما استخلصت من حكمك عليها. وكما لا أدعي فإنني أربأ أن يكون ردك التعميمي الحاد أيضاً تجربة بدائية في مفهوم النقد، ومنهجه العلمي المتعارف عليه الذي يقوم على مبدأ التشخيص فالتشريح لاستئصال مواطن الضعف والشكوى. كان عليك أيها الصديق الناقد وقد استأنست برأيك أن تدلني في وضوح وهدوء لا تعمية فيه ولا غيبيات معه: أين أخطاء التجربة؟! أهي في بنيتها الشعرية؟! أهي في تركيبتها اللفظية؟! أهي في مقاصدها ومعانيها؟! عليك أن تنتزع لي الشواهد من جسدها كما ينتزع الجراح الزائدة الدودية من جسد المريض، وهو ما زلت أنتظره حتى هذه اللحظة لأزداد به قناعة في صحة الحكم وفي صواب الحكيم، ولكنك أبداً بتعميمك زدت إلى حيرتي غموضاً، وإلى سؤالي تساؤلاً وإلى أملي ألماً وهماً. إلى أن قال، «أيها الناقد الكريم أعطوا لي بارقة الأمل، لا الحكم بالفشل على تجربتي، وفي معايير متفاوتة ليس من بينها ما يدفع إلى اليأس، أو الصدمة المرة القاسية، إنني ممتن لك لصراحتك التي لا أشك أبداً في نقاء نيتها، ومع هذا فإن الصدمة أحياناً حين تأتي وليدة صدق نية ومن صديق مهما كانت مرة المذاق تدفع بالمحاولة المترددة نحو مرحلة الإصرار والاستمرار من أجل عطاء أفضل، ومهما تكررت المحاولات، ومهما امتدت مسيرة الدرب، ومهما تباينت مذاهب الناس ومشاربهم ما بين معترض ومؤيد، وهذا ما عقدت عليه العزم واستوطنته في أعماقي ما دمت ألمس نبض المحاولة يدفعني إلى أخرى في طموح إلى الأحسن، ولو بعد زمن. شكراً لك أيها الزميل الصديق وقد استجبت لي فأجبت. شكراً لك على سرعة استجابتك، وبقدر حرارة إجابتك. دمت موفقاً مع المستأنسين برأيك ومشورتك. وليحفظك الله من كل سوء». وفي أغسطس 1983 نشر سعد البواردي قصيدة «عروس الشعر» يقول: لتكن هذه المرة تجربتي مع «عروس الشعر» التي أجدد إهداءها للشيخ عبدالله بن خميس لعلها تكون الأقرب إلى الرضا والصواب، يقول مطلعها: في ديرتي [شقرا] مهاة وسيمة قالوا لها: اختاري ترانا مطيعين. ونشرت القصيدة كاملة في الجزء الأول من كتابي «مدن الشعر»، ولكن بن خميس لم يعلق عليها. لقد ترك رحيل الأديب سعد البواردي حزناً عميقاً في الأوساط الأدبية والثقافية، مخلفا وراءه تراثاً أدبياً ثرياً ما بين الشعر والمقالة والقصة. ففي الشعر كتب: «أغنية العودة» و«صفارة الإنذار» و«رباعيات» و«قصائد تتوكأ على عكاز» و«قصائد تخاطب الإنسان» و«أغنيات لبلادي». وفي المقالة كتب: «حتى لا نفقد الذاكرة» و«ثرثرة الصباح» و«استراحة في صومعة الفكر» و«فلسفة المجانين» و«رسائل إلى نازك». وفي القصة «شبح من فلسطين».سعد البواردي والاتجاهات الأدبية الحديثة
مواضيع ذات صلة