تتبدّى عزلة إسرائيل الدولية اليوم بوصفها أحد أبرز التحولات في النظام العالمي المعاصر، ليس فقط لكونها تعبّر عن انكشاف دبلوماسي نادر لدولة لطالما تمتَّعت بدعم غير مشروط من قوى غربية كبرى؛ بل لأنها تذكّر المجتمع الدولي، في لحظة حرجة من الفوضى والصراعات، بضرورة التمسك بمفهوم الدولة والمنظمات الدولية حتى لو كانت في أسوأ حالاتها. ففي أسبوع واحد، توالت الضربات السياسية على الدبلوماسية الإسرائيلية: إدانة صريحة من الرئيس الأميركي دونالد ترمب للضربة العسكرية التي استهدفت قادة «حماس» في الدوحة، ثم بيان بالإجماع في مجلس الأمن يدين العملية ويدعم قطر، وأخيراً التصويت الساحق في الجمعية العامة للأمم المتحدة لصالح مبادرة فرنسية - سعودية لإقامة دولة فلسطينية، حيث أيَّدها 142 بلداً من أصل 164. هذه المؤشرات مجتمعة تعكس مشهداً غير مسبوق من العزلة، يكشف عن أنه حتى حلفاء الأمس بدأوا يعيدون حساباتهم، وأن إسرائيل فقدت غطاءها الدبلوماسي التقليدي.
ورغم أن قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة لا تحمل صفة ملزمة، فإن قيمتها الرمزية والسياسية تتجاوز مضمونها المباشر، إذ تشكّل مرآة لموازين القوى وتوجهات الرأي العام الدولي. فحين تتقلص حالات الامتناع عن التصويت، وتحولت دول أوروبية وغربية وازنة من موقع «الدعم السلبي» إلى موقع الرفض الصريح، فهذا يعني أن شرعية إسرائيل السياسية والأخلاقية تآكلت وفي طريقها لمرحلة ما بعد العزلة. وهو تحول يعيد إلى الأذهان لحظة عزلة نظام الفصل العنصري بجنوب أفريقيا في الثمانينات، حين مهّد الضغط الدولي لانهيار منظومة سياسية بدت عصية على التغيير.
وسط هذا السياق، برزت السعودية لاعباً مهماً وصوتاً عقلانياً واستراتيجياً يحاول إعادة القضية الفلسطينية من محور الشعارات والمزايدات إلى محور الدولة والتسوية. فالرياض، بخطابها المتوازن وواقعيتها السياسية، استطاعت أن تقود مع فرنسا مبادرة «إعلان نيويورك»، ليس بوصفها مجرد ورقة جديدة على طاولة الأمم المتحدة؛ بل بوصفها إشارة إلى أن العالم، رغم انقساماته، ما زال قادراً على التوافق حول مبدأ حل الدولتين. ومن خلال موقعها الجيوسياسي وقدرتها على الجمع بين الشرعية والتأثير الإسلامي العربي والقدرة على مخاطبة القوى الكبرى بلغة الدبلوماسية ومنطق مصالح، استطاعت أن تقدّم نموذجاً يتسم بالحكمة والواقعية في مقاربة الأزمات الدولية، يحاول إنصاف الفلسطينيين وانتشال قضيتهم من حالة التسييس التي همّشتها وحوّلتها إلى ورقة في أيدي المحاور المتناحرة.
السؤال الجوهري الذي يتجاوز اللحظة الراهنة: ماذا بعد هذه العزلة؟ وكيف يمكن استثمارها على المدى الطويل؟ الأمر لا يتعلق فقط بفتح نافذة جديدة أمام مشروع حل الدولتين؛ بل بضرورة التفكير في إعادة التوازن في عالم ذهبت فيه إسرائيل بعيداً بصلفها ووحشيتها، واستندت إلى منطق القوة أكثر من أي شرعية قانونية أو أخلاقية. فالعزلة الراهنة يمكن أن تتحول إلى بداية مسار جديد، إذا أحسن المجتمع الدولي قراءتها وتوظيفها.
مرحلة ما بعد نتنياهو قد تكون حاسمة في هذا السياق، ليس لأنه يمثل منفرداً أزمة إسرائيل؛ بل لأنه جسّد نموذجاً سياسياً استمد وجوده السياسي من الاستقطاب الداخلي، والارتهان لتحالفات ظرفية، والاعتماد على خطاب القوة المفرطة. إسرائيل بعد نتنياهو ستواجه أسئلة أعمق من مجرد هوية رئيس وزرائها القادم: هل تستطيع أن تنتقل من دولة القوة المفرطة إلى دولة يمكنها التعايش مع محيطها؟ وهل يمكنها إعادة تعريف هويتها بما يسمح بقبول الفلسطينيين أولاً شريكاً فاعلاً لا جماعة محكومة بالقوة العسكرية؟ وما الذي يعنيه أن تستمر دولة، لطالما زعمت أنها تمثل النموذج الديمقراطي الوحيد في المنطقة، في فقدان شرعيتها الدولية؟
نجاح أي مسار سياسي لا يرتبط بإسرائيل وحدها؛ بل يقتضي أولاً تحقيق مصالحة فلسطينية - فلسطينية تُعيد اللُّحمة إلى الصف الوطني وتمنح أي مشروع تسوية شرعية داخلية حقيقية؛ فقد أثبتت التجارب أن الانقسام بين غزة والضفة شكّل أكبر هدية لإسرائيل، وأتاح لها التذرع بغياب شريك فلسطيني موحد لتبرير رفضها أي حلول. إن اللحظة الدولية الراهنة بما تحمله من ضغوط وعزلة على إسرائيل، تمثل فرصة للفلسطينيين لإعادة بناء بيتهم الداخلي، وتجاوز الانقسامات الفصائلية، وصياغة مشروع وطني جامع يقوم على برنامج سياسي واقعي مدعوم بشرعية مؤسساتية. بهذا المعنى، المصالحة الداخلية ليست ترفاً سياسياً؛ بل شرط ضروري لاستثمار ما تبقى من ضمير العالم في إعادة الاعتبار لحقوق الفلسطينيين.
الاستثمار الحقيقي في عزلة إسرائيل يكمن في تحويلها إلى رافعة لإعادة الاعتبار لمفاهيم مهدَّدة في النظام العالمي: فكرة الدولة، وفكرة التنظيم الدولي، وفكرة التعايش. فحل الدولتين ليس مجرد تسوية إجرائية بين طرفين؛ بل هو رهان على إبقاء فكرة الدولة الفلسطينية حيَّة، بوصفه إطاراً يمكن أن يجمع العالم حوله، مهما طال الزمن وتعاقبت الانتكاسات. هنا يكمن دور السعودية الحيوي: ضمان أن تبقى القضية الفلسطينية في إطار سياسي منظم، بعيداً عن الفوضى والشعارات، وأن تُبقي المجتمع الدولي معنياً بمتابعة مسارها.
لكنَّ التحدي الأعمق لا يقتصر على فلسطين وحدها؛ فأسئلة العنف والسلام والتعايش والدولة التي يثيرها المشهد الفلسطيني - الإسرائيلي تمثل نموذجاً مصغراً لأزمات أوسع في المنطقة: من سوريا إلى العراق إلى اليمن ولبنان. وإذا استطاع العالم أن يتعامل مع مأزق إسرائيل من منظور إنساني وقانوني، فقد ينجح أيضاً في إعادة تعريف كيفية التعامل مع الأزمات المشابهة. بهذا المعنى، عزلة إسرائيل ليست مجرد قضية إقليمية، بل اختبار عالمي لما تبقى من ضمير العالم.
إن المجتمع الدولي اليوم مدعوٌّ لأن يبرهن على أنه قادر على أكثر من تسجيل المواقف الرمزية. عليه أن يترجم عزلة إسرائيل إلى مسارات سياسية تضغط على تل أبيب للعودة إلى منطق الدولة لا منطق القوة، وعلى الفلسطينيين لإعادة بناء مؤسساتهم على أسس تُمكّنهم من الشراكة في أي تسوية مقبلة. والسعودية، بما تملكه من ثقل جيوسياسي وقدرة على بناء الجسور، مؤهَّلة لأن تكون القوة القائدة في هذا التحول؛ ليس فقط لصالح الفلسطينيين، بل لصالح استقرار المنطقة بأسرها.
عزلة إسرائيل ليست مجرد محطة سياسية عابرة، بل جرس إنذار أخير يذكّر العالم بأن ضميره لم يمت بعد، وأن فلسطين -بمصالحة أبنائها وصوت عقلانية حلفائها- قادرة على أن تتحول من قضية مغيّبة إلى معيار أخلاقي يعيد التوازن والكرامة إلى نظام دولي مترنّح. فإذا لم يُستثمر ما تبقى من هذا الضمير الآن، فمتى؟