مؤتمر حزب «العمال» الأخير الذي انتهي، الأربعاء، كان من مشاهد التيه السياسي، حيث بدا زعيمه، رئيس الوزراء كير ستارمر، كمَن فقد البوصلة التي يُفتَرض أن تقود حزبه في السنوات الأربع قبل انتخابات 2029. فبدلاً من أن يقدم، الثلاثاء، خطاباً قيادياً ملهماً، يضخ الحماسة في نشطاء الحزب ويسلحهم بسردية واضحة ومقنعة للناخبين في حوارهم على عتبة الدار (الدعاية الحزبية التقليدية)، اختار تكريس معظم خطابه للهجوم على حزب «الإصلاح» وزعيمه نايجل فاراج. وكأن ستارمر، في لحظة ارتباك، قرر أن يمنح خصمه دعاية مجانية على حساب رسالته هو، وعلى حساب ما تبقى من تماسك داخلي في حزبه.
لم يقع ستارمر وحده في هذا الخطأ، بل كان أسلوب وزرائه الذين خصصوا معظم كلماتهم للهجوم على فاراج، حتى بدا المؤتمر مهرجاناً مخصصاً لاغتيال معنوي لشخصية الرجل الذي لا ينتمي للحزب، بل ينافسه. هذا التركيز المفرط على فاراج لم يكن فقط خطأ استراتيجياً، بل كشف عن حالة من الذعر داخل قيادة الحزب الحاكم، خصوصاً في ظل استطلاعات الرأي الأخيرة التي أظهرت تقدماً مذهلاً لحزب «الإصلاح» على بقية الأحزاب دون استثناء، حيث تشير بعض التقديرات إلى أن الحزب قد يحصد ما بين 311 و330 مقعداً برلمانياً، أي متفوقاً على «العمال» بما بين 100 و170 مقعداً. بل إن 54 في المائة من أعضاء حزب «العمال» في البلاد و34 في المائة من نوابه البرلمانيين باتوا يطالبون ستارمر بالتنحي في استطلاع رأي أجرته «ليبور-ليست» خزانة تفكير داعمة للحزب.
وفي محاولة يائسة لاستعادة زمام المبادرة، أعلن ستارمر وحكومته سياسات أكثر تشدداً تجاه الهجرة، منها تمديد الفترة التي لا يستطيع قبلها المقيمون الأجانب التقدم لطلب الجنسية البريطانية. هذه الخطوة، التي بدت اقتباساً مباشراً من أجندة حزب «الإصلاح»، لم تكن سوى محاولة لتقليد خصم سياسي بدلاً من منافسته بإقناع الناخب بسردية بديلة. فمثلاً حزب المحافظين (الذي تراجع للمركز الرابع في الاستطلاعات)، والذي يبدأ مؤتمره السنوي في مانشستر اليوم، بزعامة كيمي بيدنوك، يُقدِّم سياسات بديلة في مجالات كالطاقة بإعلان تجميد سياسة «الحياد الصفري البيئي للكربون»، وإعادة التنقيب عن الغاز والبترول في بحر الشمال، وتشغيل معامل تكرير البترول التي أغلقها «العمال»، مع سياسة استثناءات ضرائبية أفضل لجذب الاستثمارات.
لكن التقليد المكشوف لبرنامج حزب «الإصلاح» لا يقنع الناخبين، بل غالباً ما يدفعهم للتساؤل: لماذا نصوّت لستارمر الذي يغيّر سياساته كرد فعل؟ لماذا لا نختار «الماركة الأصلية» أي فاراج، بدلاً من نسخة باهتة تحاول اللحاق به؟
الناخب البريطاني، خصوصاً في هذه المرحلة، يبحث عن وضوح في الرؤية، وثبات في الموقف، وقيادة تعرف ما تريد، وتملك الشجاعة لتطرحه. أما أن يتحول خطاب رئيس الوزراء إلى سلسلة من الاتهامات، مثل وصف فاراج بأنه «عدو لا يحب بريطانيا»، أو تحميله مسؤولية أزمة الهجرة عبر القناة، بوصف القوارب بأنها «قوارب فاراج»، فذلك لا يعكس إلا ضعفاً في الحجة، وإخفاقاً في طرح البديل.
حتى داخل حزب «العمال»، تتعالى الأصوات محذّرة من هذا النهج. ديان أبوت، النائبة الشهيرة المخضرمة، رغم تعليق عضويتها الحزبية (لرفضها التصويت مع الحزب الحاكم في أكثر من مناسبة)، نبَّهت إلى خطورة منح فاراج كلَّ هذا الحيز من الاهتمام، قائلة لـ«بي بي سي» إن حزبه (الإصلاح) ليس لديه سوى خمسة نواب مقابل 403 نواب عماليِّين، وإن التركيز عليه بهذا الشكل قد يجعله يبدو في عين الناخب أكبر مما هو عليه.
في النهاية، لم يكن مؤتمر حزب «العمال» مناسبة لإعادة إطلاق مشروع سياسي، بل كان مناسبة لتأكيد أزمة القيادة. ستارمر، الذي وصل إلى رئاسة الوزراء وسط آمال كبيرة، يبدو اليوم وكأنه يلهث خلف خصم لا يملك سوى الخطابة، بينما هو يتزعم الحكومة. وإذا استمر في هذا النهج، فإن السؤال لن يكون عن عدد المقاعد التي سيخسرها، بل إلى متى سيبقى في موقعه؟ الإجابة في مايو (أيار) المقبل؛ موعد الانتخابات في مجالس البلديات، وعُمد لندن، والمدن الكبرى في بلدان بريطانيا الثلاث (إنجلترا، واسكوتلندا، وويلز)، بجانب انتخابات هوليروود (البرلمان الاسكوتلندي) وانتخابات السينيد (برلمان ويلز)، والمتوقع - من استطلاعات الرأي - تقدم حزب الإصلاح، والحزب القومي الاسكوتلندي على حساب الحزبَين الكبيرين، مع خسائر فادحة للعمال.