: آخر تحديث
الوزير القوي كان يطلب إضافة فقرات لم ترد في مداخلاته بالبرلمان

"رجل سلطة بالإذاعة".. حكايات وكواليس في زمن إدريس البصري

394
375
370

في كتابه الصادر حديثًا بعنوان"رجل سلطة بالإذاعة"، يكشف مؤلفه عبد الرحمان عشور، مدير الإذاعة السابق، الكثير من الحكايات والكواليس السياسية عن فترة في تاريخ المغرب جمع فيها الراحل إدريس البصري "بين حقيبتين وزاريتين متناقضتين في المهام والأهداف: الداخلية والإعلام".

الرباط: بعدما أشار عشور إلى أن هذه السابقة، أو "الزواج القسري" بين الوزارتين "من الحالات النادرة في العالم"، اعترف  بدءا من الصفحات الأولى للكتاب، أنه لم يخطر على باله يومًا أن مساره المهني سيتحوّل من رجل سلطة، تدرج في أسلاك وزارة  الداخلية، إلى مدير للإذاعة، وهي مؤسسة لم يكن يربطه بها سوى مؤشر التقاط موجاتها الإذاعية، من دون أن يدرك أنه سيقضي فيها سبعة عشر سنة من مساره المهني، من 1986 إلى 2003.

مقر الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزيون المغربية في الرباط

يقول في تقديمه للكتاب: "بمقدوري الآن أن أتكلم، وقد مضت خمسة عشر سنة على مغادرتي مهامي بالإذاعة الوطنية، فقد هدأت النفوس، وأصبحت تجربة إلحاق الإعلام بالداخلية جزءًا من تاريخ هذا البلد، ومن حق الأجيال الحالية والمقبلة الإطلاع عليها، والبحث في نتائجها وحيثياتها".

على امتداد 426 صفحة يستحضر عشور الكثير من التفاصيل حول العلاقة مع إدريس البصري، "الرجل القوي" في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، وما كان يعانيه معه كمسؤول على رأس جهاز إعلامي عمومي.

على سبيل المثال لاالحصر، يذكر عشور: "كنا نعاني كثيرًا في تغطية الأنشطة البرلمانية للوزير البصري، لأن الوزير كان يحرص على مراقبة المادة التي ستذاع، وقد يطلب إضافة فقرات لم ترد في مداخلاته أصلًا، من حسن الصدف أن هذه المعاناة لم تدم طويلًا، حيث تقرر تكليف وكالة المغرب العربي للأنباء بهذه المهمة، فأصبح دور الإذاعة يقتصر فقط على بث مضمون قصاصة الوكالة".

بناء مسجد الحسن الثاني
من الأحداث البارزة التي عايشها المؤلف عن كثب بصفته مديرًا للإذاعة، عملية الاكتتاب لمشروع بناء مسجد الحسن الثاني في مدينة الدار البيضاء، وما واكبتها من حملة إعلامية لحث المواطنين على التبرع التطوعي فيه، خلال شهر يوليو 1988.

يحكي المؤلف أن إدريس البصري، كان يؤكد في بداية كل اجتماع بوزارة الداخلية بالرباط، أن العاهل المغربي الراحل يريد مشاركة واسعة لجميع المغاربة، وعلى دار الإذاعة والتلفزيون أن تتجند لبلوغ هذه الغاية.

في أحد الاجتماعات التي ترأسها الوزير، واستدعى إليها عمال (المحافظون) كل العمالات (المحافظات) والأقاليم، لمتابعة سير عملية الاكتتاب، والمبالغ التي تم تحصيلها، لم يكن الوزير راضيًا عن مدخول إحدى العمالات، فخاطب العامل الذي لم يرقه مبلغ اكتتاب عمالته قائلًا: "واش يمكن طلع شويا هاذ العدد؟"، (هل يمكن الرفع قليلًا من هذا المبلغ؟)، أجاب العامل المسكين بالإيجاب، فرد عليه الوزير بقوله بالفرنسية "حسنًا"، وأنهي الاجتماع.

مسجد الحسن الثاني في الدار البيضاء

استخلص مدير الإذاعة من هذا الاجتماع، أن الأمر يتطلب أكثر من التطوع، حسب وصفه في الكتاب، وأن الاكتتاب أخذ يتحول إلى "تطوع إجباري"، إن صح التعبير، وأدرك أن الإذاعة كوسيلة تواصل عمومية، ستكون عليها مضاعفة الجهد، لبلوغ الأهداف المحددة من هذه العملية، مما سيجر عليها سيلًا جارفًا من الانتقادات.

ولأن دار الإذاعة والتلفزيون لم تخرج عن دائرة المؤسسات العمومية الملزمة بالمساهمة في عملية الاكتتاب، فقد حل وفد رسمي من وزارة الداخلية بالمؤسسة، لتدشين عملية الاكتتاب بهذه المؤسسة الإعلامية، وحضور تصويرها تلفزيونيًا، مع ارتسامات بعض الصحافيين والفنانين المنتجين، الذين ظهروا وهم يقدمون مساهماتهم للمحاسب أمام الكاميرا، ويتسلمون شهادة الاكتتاب التي تحمل رسم مسجد الحسن الثاني، التي تحمل عبارة "وكان عرشه على الماء".

الطريف في العملية، كما كشف عنها الكتاب، أن كل المبالغ المسلمة في تلك اللحظة كانت مأخوذة من خزينة الإذاعة والتلفزيون، وتم توزيعها على بعض الموظفين "المتبرعين" والمهيئين من قبل بقصد تصويرهم وهم يكتتبون، وبمجرد انتهاء العملية، وإطفاء أضواء الكاميرات أعاد "المتبرعون" تلك المبالغ الى المسؤول عن مالية المؤسسة.

تبرعات ملكية للحالات الإنسانية
من الأسرار التي كشف عنها عشور الستار، أن الملك الراحل الحسن الثاني كان متابعًا لبعض البرامج الإذاعية، ذات الطبيعة الاجتماعية، التي تستهدف مساعدة الفئات المعوزة في مواجهتها للمرض وغيره.

من بين هذه البرامج، برنامج "ليلة القدر" الذي كانت تقدمه الإعلامية أمينة السوسي، عبر أمواج إذاعة طنجة، (شمال المغرب) بمناسبة شهر رمضان الكريم، وقد كان يستقطب اهتمام المستمعين.

غلاف كتاب "رجل سلطة بالإذاعة" لمؤلفه عبد الرحمن عشور

وكان مدير الإذاعة عشور يتلقى مكالمات هاتفية من بعض المسؤولين في الدولة، الذين يرغبون في تقديم يد العون والمساعدة للحالات الإنسانية الواردة في البرنامج، وضمنهم وزير الدولة مولاي أحمد العلوي، وعامل (محافظ) اقليم فاس، محمد سعيد المذكوري، كما إن عبد الكريم بناني من الكتابة الخاصة للملك الحسن الثاني، والبروفيسور عبد الغني مثقال، مدير المصحة الملكية، كان يربطان الاتصال به لإبلاغه تعليمات العاهل المغربي للتكفل ببعض الحالات التي كانت تطرحها أمينة السوسي في برنامجها.

الملك يوقف بث برنامج إذاعي
من جملة الحكايات التي رواها عشور في كتابه، أن النوم كان يداعب عيونه ذات ليلة من ليالي رمضان، حين استيقظ على رنين الهاتف في منزله، فتوقع لحظتها أن الحدث خطير.

كان المتصل هو محمد طريشا، المدير العام لدار الإذاعة والتلفزيون ، متسائلًا عن طبيعة البرنامج الذي كان يبث في تلك اللحظة، بعد منتصف الليل، وهو برنامج "ليالي رمضان"، ويدور موضوع الحلقة حول "مسؤولية المرأة"، ومن بين المتدخلات الكاتبة الراحلة فاطمة المرنيسي، وفاطمة الزهراء طموح، الأستاذة الجامعية، ورابحة الطويل، مسؤولة عن معمل للزرابي بمدينة سلا، المجاورة للرباط، والمطربة سمية عبد العزيز، وبمجرد أن أخذ علما بهذه المعطيات، طلب طريشا قطع البث فورًا.

بالفعل فقد تم ذلك على الفور، وكانت المفاجأة بالنسبة الى عشور حين علم أن الملك الحسن الثاني، هو من أمر بإيقاف بث البرنامج بعدما سمع ضيفة البرنامج فاطمة الزهراء طموح، الأستاذة الجامعية، تقول في مداخلتها: "لماذا لا تطبق التعاليم الإسلامية إلا عندما يتعلق الأمر بالمرأة، ويتم تجاهلها في الأمور الأخرى، كالديمقراطية والعدل ومحاربة الفساد؟".

الملك: "أغلقوا الميكروفون"
"أغلقوا الميكروفون" أمر غير قابل للنقاش، خاصة وأنه صدر من أعلى سلطة في المملكة، وهو الحسن الثاني، في خطاب رسمي، وقد حدث ذلك، حسب ما رواه عشور في كتابه، خلال أحد الاستقبالات الملكية لبعض الشخصيات.

كان النشاط الملكي ينقل مباشرة عبر أمواج الإذاعة وشاشة التلفزيون، وفجأة أمر الملك بإيقاف البث المباشر، لكن الموظفة التقنية في أستوديو 4 بالإذاعة، ترددت في قطع البث المباشر، فالأمر يتعلق بنشاط ملكي، والملك مازال يتحدث، وأصرت على أنه لا يمكن لها قطع خطاب الملك.

يتابع عشور رواية تلك اللحظات على لسانه: "تحوّلت تلك الثواني إلى ساعات، وأنا أنتظر قطع البث المباشر، والملك ما زال يتحدث، وأتصور كيف سيكون موقفي، إذا أدرك الملك أن أمره لم ينفذ؟ وأن الإذاعة مازالت تنقل خطابه مباشرة، فما كان مني إلا أن أسرعت إلى أستوديو 4، لأقف شخصيًا على عملية قطع البث، ومن حسن الحظ، أن ما جاء في تلك الدقائق، لم يتضمن أي شيء كان الملك لا يرغب في أن ينقل مباشرة".

قصة منع طائرة جزائرية من الإقلاع
الجانب الفني حاضر بقوة بين صفحات كتاب "رجل سلطة بالإذاعة" الذي يتضمن العديد من الكواليس والحكايات الفنية، وضمنها قصة وفد فني جزائري كبير كان قد بعث به الرئيس الجزائري السابق الشاذلي بنجديد إلى الرباط،على متن طائرة خاصة سنة 1988، للمشاركة في حفلات عيد الشباب، ويضم أشهر نجوم الفن والموسيقى في الجزائر، وضمنهم رابح درياسة، وعبد القادر شاعو، ونادية يوسف وغيرهم.

عبد الرحمان عشور، مدير الإذاعة المغربية سابقا

كان مسك ختام الجولة الفنية للوفد الجزائري إحياء حفل بالقصر الملكي بالرباط، بدعوة من الملك الحسن الثاني الذي طلب من أعضاء الوفد العودة مساء اليوم التالي لتنشيط سهرة أخرى بالقصر، وهو أمر لم يتوقعه أعضاء الوفد، فمغادرتهم للمملكة كانت مقررة صباح الغد من مطار الرباط ـ سلا، لاقتراب عيد الأضحى.

بخصوص هذه الواقعة، حكى المطرب درياسة لمؤلف الكتاب، أن الملك الحسن الثاني قال لإدريس البصري مازحًا: "السي إدريس الباسبورات ديالهم عندك؟"، (جوازات سفرهم عندك؟). كانت هذه الجملة كافية ليستنبط وزير الداخلية المغربي آنذاك أن الملك يأمر بتمديد إقامة الوفد الجزائري في المغرب.

لكن رد فعل بعض أعضاء الوفد الجزائري كان الرفض، وجمع الحقائب والتنقل عبر الحافلة من أجل المغادرة، قبل أن يظهر عضو السفارة الجزائرية بالرباط، في المطار ويأمر الوفد بالعودة إلى الفندق، بدعوى أن قوانين الملاحة لا تسمح للربان وطاقمه بالطيران، إذا لم يأخذوا قسطا من الراحة.

وفي الحقيقة، فقد كانت فعلًا حيلة ذكية حبكها عضو السفارة الجزائرية وقائد الطائرة لمنع الوفد الجزائري من الإقلاع، وبالتالي الاستجابة للرغبة الملكية، وهكذا أرغم الجميع على مغادرة المطار وركوب الحافلة والعودة إلى فندق حسان.

ثني عبد الهادي بلخياط عن الاعتزال
من بين الكواليس الفنية التي كشف عنها عشور  في كتابه، أنه كمدير للإذاعة، كلف سنة 1988 بثني المطرب المغربي عبد الهادي بلخياط عن اعتزال الغناء، بعد انخراطه في إحدى الجمعيات الدعوية، وانتقاله إلى إحدى الدول الإسلامية، وهناك من قال إنه أصبح مؤذنًا في أحد مساجد باكستان وأفغانستان.

في التفاصيل أن عشور تلقى تعليمات صارمة من أجل ربط الاتصال ببلخياط، وإقناعه بالعودة إلى المغرب، بعدما فهم آنذاك أن الدوائر العليا غير راضية عن الخطوة التي أقدم عليها المطرب، ومتخوفة في الوقت نفسه من أن يستغل اسمه في الصراع الدائر آنذاك بين المغرب وإيران "الخمينية"، كما استغربت الدوائر نفسها من صمت الإذاعة، ولماذا لم تحرك ساكنا من أجل إعادة الأمور إلى نصابها؟.

أيقن عشور أنه "فوق لغم جديد لا حول له فيه ولا قوة"، حسب تعبيره، وأنه يتعيّن عليه أن يعمل كل ما في وسعه لإنهاء هذه القضية التي أصبح قضية وطنية، وقد طلب منه بعد ذلك أن يؤكد على عبارة "خميني" حين الحديث مع المطرب المهاجر.

كثف عشور من اتصالاته، إلى أن أمكن له الحديث هاتفيًا مع بلخياط عبر القائم بأعمال السفارة المغربية في نيودلهي عاصمة الهند، فتوجه إليه بالقول بعد عبارات المجاملة، إن الملك الحسن الثاني غاضب عليه بعدما أصبح خمينيا؟.

أضاف عشور موجهًا الكلام الى بلخياط، أن اعتزاله في هذا الوقت تحديدًا، وفي مثل سنه، قد تكون له انعكاسات سياسية كثيرة، وأن أعداء المغرب سارعوا إلى استغلال قراره هذا في حملاتهم الدعائية.

خلال تلك المحادثة عبر الهاتف، كان بلخياط يردد عبارات لا تخرج عن الاستعاذة والحوقلة والحسبلة، مضيفا إليها في بعض الأحيان عبارة "ما شاء الله".

أجوبة جعلت عشور يقتنع أن بلخياط لا يتكلم بكل حرية، وقد اتضح في ما بعد أنه كان محاطا فعلًا بمجموعة من الدعاة من بينهم الإذاعي المغربي  السابق سعيد الزياني.

وفي اليوم الموالي تكرر الاتصال ببلخياط والحديث معه، وقد عبّر عن رغبته في القيام بعمرة، وطلب تسهيل المأمورية لزوجته، قصد اللحاق به. يختم عشور هذه الحكاية بالقول:"بالفعل مكنته هذه الطريقة، حتى لا أقول الحيلة من العودة بعد أيام إلى المغرب، وهنا انتهت مهمتي".


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في أخبار