إيلاف من الصويرة: تلوح الصويرة، "ذات الأسوار"، "كباقي الوشم"، كما كتب عنها الشاعر محمد الصالحي، الذي يرى أن "اسمها الأصل الســــويرَة. سطت الصّادُ على السين فكان ما كان. ورغم أن الصاد والسين حرفان مهموسان رَخْوَيانِ فـــَــــمــويـــان، فإنَّ الأولى احتكاكية فخمة، والثانية احتكاكية مُرققة. مع السين لا تهتزّ الأوتار الصوتية، في حين ترتفعُ مؤخرةُ اللسان عند نطق الصّاد، لكونها أحد حروف الإطباق. يتقعر اللسانُ عند نطق الصاد فينطبق على الحنَك الأعلى. فخامة تليق باسم فخم: الصّويرَة".
يرى الصالحي أن "الصويرة جرح في خاصرة الخارطة. شبه جزيرة لائذة بالماء والشمس والغبار. كأنها خنصر ناتئٌ في جسم الزمان. يحارُ المرءُ في معرفة كيف حُشيت هذه البلدة الصغيرة بأكوام التاريخ، حتى إن التاريخ لينزُّ منها نزًا. الصويرة من الغنى والغموض حتى أن الكتابات التاريخية عاجزة عن فضح سرها. وحدها الكتابة الأدبية والتلوينات الفنية والتعابير الإيحائية تستطيع ملامسة هذا السّطح الفيروزي العميق".
ويقول بعض المهتمين بالمدينة وتاريخها إن للصويرة نكهة برتغالية، حين تدير ظهرها إلى البحر، ونكهة إسلامية ويهودية وأفريقية، حين تنكفئ على ذاتها داخل أسوارها، لنكون، بالتالي، مع ثنائية المنفتح ـ المنغلق، كثنائية جدلية انكتب بها تاريخ المدينة.
ويوجد في الصويرة العديد من الساحات والأسوار والآثار التاريخية الساحرة. وتعتبر "سقالة القصبة"، التي يوجد بها عدد من المدافع المصفوفة إلى بعضها البعض، من أبرز هذه المعالم، وكذلك الشأن بالنسبة إلى أبواب المدينة وأسوارها، سواء الخارجية منها، أو الداخلية التي تعرض الوجه التاريخي للمدينة، عبر المدينة العتيقة والقصبة والملاح (حي اليهود).
كما يعتبر "برج باب مراكش" التاريخي، الذي يرجع بناؤه، حسب عدد من الكتابات التاريخية، إلى القرن الثامن عشر، من أهم البنايات الأثرية التي تبرز الغنى التاريخي والحضاري للصويرة. وهو يعد واحداً من الحصون الدفاعية المهمة التي شيدت لحماية المدينة والميناء من أي هجوم قادم من الشرق والجنوب الشرقي، لذلك تم تدعيمه، وقت بنائه، بعشرات المدافع.
وتنقل كتب التاريخ أن تاريخ الصويرة عرف العديد من التحولات، التي انطلقت آثارها مع الفينيقيين ثم الرومان، وصولاً إلى البرتغاليين، الذين يعود إليهم أصل تسمية "موغادور"، غير أن التحول الأبرز والأهم، الذي عرفته المدينة، كان على عهد السلطان العلوي سيدي محمد بن عبد الله، الذي أراد، انطلاقاً من عام 1760، أن يعطي للمدينة شكل المدينة التجارية المنفتحة على العالم، عبر مينائها. ولذلك لا يخفي أهل الصويرة، المعروفون بحسن الضيافة والاستقبال الصادق للزائرين، افتخارهم، بأن مدينتهم الجميلة رسمها وتخيلها ملك علوي، قبل نحو ثلاثة قرون. ويذكر المؤرخون أن السلطان العلوي، الذي كان شديد الحرص على تحصين الثغور والمدن الساحلية، كان كلف المهندس الفرنسي، تيودور كورني، المتخصص في بناء الحصون العسكرية والقلاع، بوضع التصميم العام للمدينة.
واهتمت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونيسكو) بهذه المدينة وأولتها عناية كبرى، خاصة في ما يتعلق بترميم جدرانها وبناياتها التاريخية. ونقرأ في لوحة عُـلقتْ في وسط المدينة: "بناءً على الاتفاقية المتعلقة بحماية التراث الثقافي العالمي تم تسجيل المدينة التاريخية للصويرة ضمن لائحة التراث العالمي. إن هذا التصنيف يرسخ القيمة العالمية الاستثنائية لهذا الإرث الثقافي، وذلك حفاظاً عليه لفائدة الإنسانية جمعاء. الصويرة نموذج استثنائي لمدينة مُحصَّنة من القرن الثامن عشر بنيت في شمال أفريقيا وفق مقاييس الهندسة العسكرية الأوروبية المعروفة في تلك الفترة، ومنذ إنشائها، ظلت المدينة ميناءً تجارياً دولياً متميزاً يربط المغرب والمناطق الصحراوية المجاورة بأوروبا وباقي بقاع العالم".
الصويرة .. مهوى "الكتاب الأفاقين" و"الفنانين الملاعين":
نظرا لموقعها على شاطئ المحيط الأطلسي، فقد اتسعت جاذبية الصويرة، منذ سنوات عديدة، لتشمل هواة ركوب الأمواج ومسابقات الألواح الشراعية والغطس. كما ظلت المدينة توفر للمغرمين بها هدوءًا فريداً في نوعه، كان، بالتأكيد، وراء موجات "الهيبيين"، التي ظلت تقصدها، على مدى العقود الماضية. كما يُحسب لها قدرتها على اختيار زوارها المغرمين بالفن وسحر وجمال الأمكنة. وهكذا، وبحكم موقعها الطبيعي وهدوئها المتميز، ظلت المدينة، على امتداد السنوات، قبلة لفنانين ذوي شهرة عالمية، أمثال جيمي هندريكس، الذي يقال إن أغنيته "قصور في الرمال" ولدت في الصويرة، وكات ستيفنس، الذي اعتنق الإسلام في وقت لاحق، فضلاً عن سينمائيين لامعين، أمثال أورسن ويلز، الذي صور فيها فيلمه الشهير "عطيل".
إن شئت الدنوّ من الصويرة، يكتب الصالحي، فــ"اقرأ ما كتبه الكتَّاب الأفاقون عنها. ما لا يعدّ من الروايات واليوميات والأشعار واللوحات التشكيلية والسينما.. وهلمَّ جرّا. في رواية الروائي المغربي الكبير الراحل محمد زفزاف " الثعلب الذي يظهر ويختفي"، وفي كتابات ابن الصويرة البار إدمون عمران المالح . وهو الذي وضع عنها كتابًا ذا عنوان دالّ "الصويرة، المدينة السعيدة"، تجد الصويرة نائمة على سريرٍ من حنين وتاريخ. كما في الأكوام المكدسة من اللوحات الفنية التي وضعها رسامون وفنانون من كل المراتب ومن كل الأقاصي. في السينما العالمية، في الأغنية الثائرة ذات الجذور الأفريقية المتوحشة، حيث أوت الصويرة فنانين ملاعين أتوها من كل فجّ عميقٍ وعلى كلّ ضامر. في المنفلت من الأدب والفنّ تجد الصّويرة. مدينة مَنذورَة لسِرّ كتومٍ بَهيجٍ".
ويذهب الكثيرون إلى القول إن المدينة استهوت "الهيبيين" ومشاهير العالم، لأنهم في العمق فنانون يحبون الجمال والإبداع الإنساني، كما كانوا ينشدون الحرية، ويرون أن الصويرة ليست مدينة سهلة، أو مدينة سياحية، فقط، بل مدينة منغرسة في تربتها، تعتز بتاريخها، أما مستقبلها، فمثل ماضيها، يوجد خلف أسوارها.
الصويرة .. مدينة الفن و"كناوة":
توصف الصويرة بأنها مدينة تتنفس الفن والثقافة بامتياز، ترعرعت بين ظهرانيها مواهب استثنائية: ممثلون، موسيقيون، رسامون ومسرحيون، كانوا خير سفراء لمدينتهم وبلدهم، لعل أبرزهم المسرحي الطيب الصديقي، والكاتب إدموند عمران المالح، والموسيقيان عبد الرحمان باكو ومحمود غينيا، والتشكيليان بوجمعة لخضر وحسين ميلودي.
وتعج الصويرة بالتشكيليين والكتاب والموسيقيين. وبفضل فنانيها، أصبحت أحد المراكز المهمة في الحركة التشكيلية المغربية المعاصرة، الشيء الذي جعلها تزخر بالأروقة، التي تعرض لوحات كبار الفن التشكيلي المغربي، معظمهم من أبناء المدينة، الذين اشتهروا بفطريتهم.
وكانت ثمانينات القرن الماضي شاهدة على فقدان المدينة كثيرًا من بريقها بسبب مغادرة العديد من أبناء الصويرة مدينتهم، قبل أن تعيدها الثقافة، مرة أخرى، إلى السكة الصحيحة، خاصة بعد إحداث "مهرجان كناوة موسيقى العالم"، سنة 1998، وتتابع ميلاد المهرجانات الفنية، ذات الصيت العالمي، على غرار "موسيقى ربيع الأليزي" و"الأندلسيات الأطلسية"، الشيء الذي ساهم في إشعاع المدينة، حتى صارت واحدة من المدن التي تتبادر إلى الذهن، للوهلة الأولى، عند الحديث عن المغرب عبر العالم، كما أمست مرجعا للسلام والحوار والعيش المشترك والفعل الثقافي على الصعيد الدولي.
ويبقى "مهرجان كناوة وموسيقى العالم" أبرز التظاهرات الفنية والثقافية التي تميز الصويرة، عبر العالم، هو الذي انطلق تنظيمه من "فكرة جنونية" بخلق موعد سنوي مجاني للموسيقى الشعبية، تكون فيه موسيقي "كناوة" النجم الذي يأتي العالم للاستمتاع به. وباعتماده على قيم الحرية وحسن الضيافة والأخوة والكونية، استطاع المهرجان أن يحيي الذاكرة، والتراث والموسيقى "الكناوية".
وكانت علاقة الصويرة بموسيقى "كناوة"، التي تعود إلى أصول أفريقية، قد انطلقت، منذ القرن 17، مع تحول المدينة إلى ميناء ومركز تجاري مهم، منفتح على العالم، ونقطة تبادل تجاري مع "تمبوكتو" في مالي.
زيت "أركان" وخشب عرعر وسمك مشوي
توجد في المدينة معروضات صناعة تقليدية متنوعة، تعكس التمازج الثقافي بين مكوناتها الدينية والعرقية، هي التي اشتهر حرفيوها، على الخصوص، بالنقش على خشب العرعر، فضلاً عن صنع تحف جميلة من الحلي والمجوهرات والألبسة، تحظى، في مجملها، باهتمام خاص من قبل الزوار.
وتشتهر منطقة الصويرة بأشجار "الأركان"، التي لا توجد إلا في المغرب، من بين كل دول العالم، ويتميز زيتها بفوائده الغذائية والعلاجية والتجميلية الفريدة في نوعها.
وحيث إن الصويرة مدينة بَحرية فهي تشتهر، أيضاً، بأنها مدينة السمك، خصوصا السمك المشوي على الفحم. والجميل في الصويرة أن مطاعمها تقترب بك من شاطئها ومينائها، ما دامت تمنح الجالس متعة الأكل والمشاهدة، كما تمنحه فرصة تذوق أسماك مشوية غادرت عالمها الأزرق للتو. ويشعر مرتادو المطاعم الشعبية، وهم جالسون يتناولون ما يقترح عليهم من خيرات البحر وفواكهه، كما لو أنهم بصدد قضاء نزهة مريحة، يستمتعون فيها بالهواء الطلق والشمس الدافئة وزرقة البحر والسماء.
من جهتهم، يعرف أصحاب هذه المطاعم أن سمعة وجودة ما يعرضونه يعتمد على وجوب أن يذهب الزبون منشرحاً ومرتاحاً إلى جودة الأكل ومستوى الخدمة المقدمة، وبذلك يضْمنون لمطاعمهم وللمدينة وفاء الزبائن والزوار وسمعة وصيتا بين الناس في المدن البعيدة والقريبة.
الصويرة .. عنوان مغرب منفتح
يرى أندري أزولاي، مستشار العاهل المغربي ورئيس "جمعية الصويرة موغادور"، أن الصويرة هي، اليوم، "عنوانٌ للمغرب المنفتح الذي يتقدم من دون عُـقد. المغرب المتجذر في هويته وقيمه، مع وفاء كبير للذاكرة، من دون خوف أو تخوف من الذهاب نحو الآخر والانفتاح على كل أنواع الموسيقى والثقافات والديانات والأعراق".
ويبدو أن الدينامية الاقتصادية والسياحية، التي صارت الصويرة تعيش على إيقاعها، لا يمكن فهمها، برأي البعض، من دون استحضار طبيعة التعايش الثقافي والتاريخي بين مكوناتها، فضلاً عن أن السنوات الأخيرة شهدت توافد واستقرار عدد كبير من الأجانب في المدينة، عملوا على اقتناء وترميم دورها القديمة، كما انخرطوا في ديناميتها التجارية والخدماتية، من خلال إنشائهم دور ضيافة ومطاعم ومتاجر.
وتعرف الصويرة ببيوتها البيضاء ذات النوافذ الزرقاء، التي تتآلف مع بياض الموج وزرقة البحر، وهي تنتقل بألوانها إلى اليابسة.
وعند التجول في شوارع وأزقة المدينة، يثير الزائر منظر نساء المدينة، متجهات إلى منازلهن أو خارجات لقضاء بعض الأغراض وهن يلبسن "الحايك" (رداء خارجي من الصوف الأبيض يغطي الجسد وجزءا من الرأس)، وهو رداء لم يستطع جنون الموضة ولا "بدعة" سراويل الجينز أن تجعل كثيراً من نساء الصويرة يتخلين عنه.
وعند زيارة الصويرة والرغبة في الإقامة فيها لعدة أيام، تغييرا للجو وهروبا من ضجيج المدن الكبرى بمصانعها وإداراتها، يُنصح باختيار إحدى دور الضيافة الموجودة في المدينة القديمة، وهي دورٌ مصممة على الطريقة المعمارية العربية الأصيلة، الفريدة بهندستها، من خلال بهو تحيط به الغرف، ذات الديكور والأثاث المغربي، من كل الجوانب. أما الفنادق فتقتربُ بنزلائها من زرقة البحر، لعل أشهرها فندق "الجُزر"، الذي ما زال يتذكر أياماً نزل بغرفه مشاهير ورجال الفن والسينما العالمية، أمثال أورسن ويلز وجيمي هندريكس.
أما أهل الصويرة الطيبون والمسالمون، فقد اعتادوا المجيء كل مساء إلى الشاطئ ليتأملوا البحر، ولكي يتابعوا منظر غروب الشمس، فيما أبصارهم تحدق في "ظلمات" المحيط، كما لو أنهم يستعيدون حكاية السلطان العلوي الذي رسم مدينتهم متجهة نحو البحر والغرب، لكن بأسوار وأبواب وروح متجذرة في يابسة المغرب وأرض أفريقيا.