إيلاف من الرباط : كشفت المندوبية السامية للتخطيط في المغرب (هيئة حكومية للاحصاء) عن إجراء بحث وطني جديد حول العائلة، سيستهدف 14 ألف أسرة في مختلف جهات المملكة، لفهم ملامح التحول العميق الذي مسّ بنية الأسرة المغربية منذ آخر دراسة مماثلة أجريت سنة 1995.
وسيمتد هذا البحث الميداني الجديد إلى غاية سبتمبر المقبل ، بهدف ملاءمة نتائجه مع البيانات الأخيرة الصادرة عن الإحصاء العام لعام (2024)، والتي رسمت صورة مقلقة حول الأسرة التي باتت تنحو نحو التقلص، وتغير العلاقات الأُسرية، وانحراف السلوكيات الديموغرافية عن نمطها الكلاسيكي. حيث سجل تراجع متوسط لعدد أفراد الأسرة إلى 3,9 بعدما كان 4,6 عام 2014، وارتفاع نسبة الأسر التي ترأسها نساء إلى 19,2%، فيما أصبح 11,1% من المغاربة يعيشون في أسر من شخص واحد، ما يؤشر إلى اتساع نمط العيش الفردي وتراجع التضامن الأسري.
من الاحصاء إلى فهم التغير
يمثل هذا البحث الجديد أكثر من مجرد عملية إحصائية، لأنه يشكل محاولة لفهم الديناميات الاجتماعية المتغيرة التي تمسّ جوهر المجتمع المغربي. باعتبار أن المندوبية تسعى إلى جمع معطيات دقيقة حول بنية وتنظيم العائلة المغربية، كي تعرف كيف أثرت التحولات الاقتصادية والثقافية على طبيعتها، وتماسكها، وأدوار أفرادها.
ويقول مصدر في المندوبية إن "الدولة اليوم لا تحتاج فقط إلى أرقام، بل إلى بوصلة اجتماعية تعيد توجيه السياسات العمومية"، مشيراً إلى أن التحولات في الأسرة تعكس تحولات في مفاهيم الهوية، والاندماج، والسلطة داخل المجتمع.
أرقام تكشف الواقع
الإحصاء العام للسكان والسكنى لعام 2024 ، كشف عن تضاعف عدد الأسر خلال عشر سنوات، حيث بلغ بالتحديد ما مجموعه 9.275.038 أسرة، مقابل 7.3 ملايين عام 2014. لكن الزيادة الكمية أخفت وراءها تحولات نوعية أكثر دلالة، تمثلت في تقلص حجم الأسرة، وتراجع الخصوبة إلى أقل من طفلين لكل امرأة، وارتفاع الأسر التي تتحمل نساء مسؤولية الانفاق عليها، إضافة إلى ظهور نوع جديد من الأسر الفردية، التي يفضل فيها شخص واحد أن يعيش لوحده من دون زوجة ولا أبناء.
أما التوزيع المجالي، فأظهر أن 6.1 ملايين أسرة تقطن في المدن، مقابل 3.1 ملايين في القرى، بمعدل نمو سنوي أعلى في الوسط الحضري، ما يعكس استمرار النزوح نحو المدن، وتوسع نمط الأسرة النووية.
لماذا الآن؟
جاء توقيت هذا البحث ليجيب عن أسئلة مؤجلة، منها كيفية إعداد السياسات التعليمية، والسكنية، أو الاجتماعية دون معرفة دقيقة ببنية الأسر، وكيفية ضبط تكافؤ الفرص بين الأفراد إذا كانت الأسرة نفسها تعاني من اختلالات في التماسك والدور التربوي، وكيفية دعم السياسات الأسرية.
وتؤكد المندوبية التزامها بضمان سرية المعطيات التي سيتم تجميعها، داعية المواطنين إلى الانخراط في هذا الجهد الوطني، الذي سيساهم في إنتاج قاعدة بيانات تسمح بتطوير سياسات تستجيب للواقع، لا للفرضيات.
ما بعد الأسرة الكلاسيكية
بات واضحاً أن المغرب يعيش مرحلة انتقالية في مفاهيم الأسرة، من الأسرة الممتدة إلى الأسرة النووية، ومن الزواج المبكر إلى التأخر في تكوين العلاقات، ومن التضامن العائلي إلى أشكال جديدة من الاستقلال الفردي. وهذا ما يجعل من هذا البحث أداة تشخيص ضرورية لأي مشروع اجتماعي جديد، على اعتبار أن الأسرة لم تعد فقط مكاناً للعيش، بل مرآة لعلاقة الفرد بالدولة، وبالقيم المجتمعية، وبمستقبل التنمية.