: آخر تحديث

يا لها من لعبة.. يا لها من حماقة !

5
5
4

عبدالله السويجي

يتحدث العالم لغة غريبة عجيبة بشأن ما يجري في قطاع غزة من موت وجوع ودمار نفسي ومادّي، يتحدث كأن الكارثة لم تقع بعد، وأن الموت لم يحدث بعد، وأن الجوع لم ينهش البطون بعد، وكأن هناك من يهدّد بذلك، فقط يهدّد. يتحدث بلغة الشرط وأداتها (إذا...)، بينما المشهد الإنساني يصعب وصفه، وربما يصعب تخيّله، وعلى عجالة لا نريد التوّقف عند مجموعات انتهازية قد تكون إجرامية تعمل في داخل قطاع غزة، تسرق المساعدات وتحتكر المواد الغذائية وتبيعها بأسعار خيالية، أي تتاجر بأبناء بلدها وبفقرهم وأزماتهم السياسية والاقتصادية والمعيشية. هؤلاء مجموعة من صنع الظرف والمشهد وربما من صناعة إسرائيل وأعوانها، لكن هنالك مشهد إنساني قد لا تفهمه الدول الأجنبية ذات الصوت العالي والأثر الأكيد والمواقف القوية لم يتم اتخاذها، قد لا يصدقون أن الناس يموتون في الشوارع من قلة الغذاء أو انعدامه، أو من غياب الدواء، ومن فقدان الأمن أولاً وأخيراً، وفقدان الرؤية والأمل والإيمان بالإنسانية وقيمها، ربما لا يصدّقون، لذلك يتحدثون بلغة التهديد التي لا تغني ولا تسمن من جوع ولا تلتفت إليها إسرائيل وهي تحاصر القطاع وتمنع دخول المساعدات وتستمر في حربها العبثية. دول أوروبية تهدد إسرائيل بالاعتراف بالدولة الفلسطينية إذا لم توقف الحرب على غزة، وهي لا تعرف ماذا تعني الدولة الفلسطينية، هل هي القائمة حالياً وتُسمّى بأراضي السلطة الوطنية الفلسطينية، هذا الكيان الهلامي غير المعروف شكلاً ولا موضوعاً، لا حدوداً ولا سياسات ولا اقتصاداً، باختصار لا توجد دولة حتى يعترفوا بها، ووجود مصطلح (دولة فلسطين) لا يعني وجود دولة ذات سيادة، لها سياسة وحدود وجيش ومطارات وعملة، ثم إن هنالك جزءاً من هذه الدولة وهو قطاع غزة على حافة الانهيار، وربما الاندثار، وربما التلاشي، إذ لا توجد مقوّمات للعيش في هذه البقعة الصغيرة من العالم. ونتيجة لذلك، هنالك جزء من هذه الدولة مفقود، وتحت الاحتلال، وهذا لا يعني أن الجزء الآخر (الضفة الغربية) ليس تحت الاحتلال، إنه مُشاع للاحتلال، يدخله متى شاء، يدمّر ويحرق وينسف ويجرف ويعتقل ويقصف، والأكثر من ذلك، يهدّد بضمّها إليه، بل ويحيل قانوناً إلى الكنيست للبحث في ضمّها، وإعادة احتلالها والسيطرة عليها من جديد. فعن أي دولة تتحدث فرنسا ومعها بريطانيا، وأي دولة أخرى تنضم إلى هذا المهرجان الضبابي، والمزايدات الواضحة كعين الشمس. من الواضح أن هذا التهديد بالاعتراف ب (الدولة الفلسطينية) يشبه وضع العربة أمام الحصان، بينما هنالك وسائل أكثر فعالية لإيقاف نهر الدم في قطاع غزة، وإيقاف الجوع، وهو لعنة وعار في جبين الإنسانية، مهما كانت الأسباب، ورجال القانون يعلمون، إن من واجبات الاحتلال، أي احتلال، هو تأمين الغذاء والدواء والمسكن والأمن للشعب المُحتل، إذاً هو واجب إسرائيل تقديم الغذاء والدواء في المناطق التي تحتلها. لكنها، ومخالفة لكل القوانين الدولية، تقوم بفرض حصار خانق يؤدي إلى الجوع، وتدّعي أن هذه الوسيلة هي لإجبار حركة حماس على التفاوض، وإسرائيل تعلم الاستراتيجية التي تتبعها حماس، وقبل ذلك، تعرف الفكر الذي تنتهجه حماس، وتعرف توصيف حماس لما يحدث حالياً، تعرف توصيفها للضحايا، والنازحين، والمعاقين، ويكفي أنها تقول إنها لن تفاوض تحت ضغط الجوع والنزوح والتدمير، ومستعدة للتفاوض إذا سمحت إسرائيل بإدخال المساعدات، كنتيجة لذلك يمكننا القول بجرأة: يا لها من لعبة، يا لها من حماقة..هذه (الدول) وتلك (التنظيمات)، ربما لا تفكر في الخسائر التي لا يتداولها الناس ولا الإعلام ولا المنظمات الأممية، لا تفكر في أن المجتمع الطلابي خسر عامين دراسيين، ناهيك عن الضحايا من التلاميذ والمدرسين وأساتذة الجامعات والمباني المدرسية والجامعية والمكتبات والأجهزة، لا تفكر بالجهل الذي يهدّد الأجيال، ولا تفكر بالعنف الذي يزداد كل يوم، وبالأمراض النفسية. والعجيب أنها تتحدث عن إعادة الإعمار، ولا تتحدث عن إعادة تأهيل مئات الآلاف من الصغار والكبار، وإعادة رسم الأمل في عيون الأطفال وإيمانهم بالحياة. وهناك مسألة أخرى، لا يفكّرون بها وهي (كرامة الإنسان)، فمن أعطى وسائل الإعلام حق تصوير الأطفال والنساء والرجال وهم يصطفون أو يتجمعون أو يتهافتون للحصول على الطعام، من سمح للإعلام بانتهاك إنسانية طفل وهو يجمع بقايا الطعام من آنية فارغة؟ وماذا سيقول غداً، حين تضع الحرب أوزارها ويشاهد نفسه في ذلك الوضع المزري؟. أعتقد أن على الإعلام الكفّ عن المتاجرة بجوع أؤلئك، وأن يضع شريطاً أسود على كل وجه، وأن يخفي الملامح قدر الإمكان، حفاظاً على كرامة الناس، وعلى مستقبلهم، ولكن ماذا نقول والتنظيمات نفسها توزّع هذه المشاهد لاستدرار عطف الناس، والطلب من الولايات المتحدة إنهاء الحرب وإجبار إسرائيل على وقف إطلاق النار! أي إنهم يستعينون بالدولة التي يفترضون أنها عدوتهم. كلام كثير جداً يمكن أن يقال، لكن أوانه لم يحن بعد، فالأيام القادمة ستكشف المتاجرين بالبطون الخاوية من دول وتنظيمات، وستكشف هؤلاء الذين يتسلّون بالسياسة وإطلاق تهديدات فارغة..


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد