محمد ناصر العطوان
بين جبال مكة... قلب يرتجف... لم يكن محمد بن عبدالله، يعرف أن تلك الليلة ستقسم حياته إلى زمنين... في غارٍ ضيقٍ في أعلى حراء، كان قلبه ينبض بأسئلة لا صوت لها: من أنا؟ ولماذا هذا العالم معتمٌ إلى هذا الحد؟ كيف ينام الناس في حضن أصنام لا تتكلم، ولا تعطي، ولا تمنع؟ لماذا الظلم وسحق الضعفاء؟
هناك، حيث لا أنيس إلا الصمت، جاءه الصوت:
«اقرأ!»
ارتجف الجسد... ارتجف النبض... حتى الجبل نفسه أحسّ أن في الصخر حياةً ترتعش.
«ما أنا بقارئ!»
ولم تكن هذه فقط كلمة العجز، بل صرخة الإنسان في وجه المستحيل: كيف أقرأ وأنا ابن الصحراء، لم أتعلم من أحد، ولا كتب عندي ولا أقلام؟!
الصوت يعود... والرهبة تزداد...
«اقرأ باسم ربك الذي خلق...».
هنا بدأ الكون كله يتغير في عيني محمد -صلى الله عليه وسلم-... لم يعد مجرد رجل يبحث عن معنى، بل صارت كل ذرة في جسده مرآة للغيب؛ من أين جاء هذا الكلام؟ من يصدّقني لو قلت إنني سمعت صوت السماء؟
عاد للبيت... وما أصعب العودة إلى البيت حين لا تعود كما خرجت!
طرق الباب على خديجة، لكنه لم يعد زوجها الذي عهدته، بل رجل رأى ما لا يُرى، وسمع ما لا يُسمع.
«زملوني... زملوني...».
كانت يداه ترتجفان، وصدره يعلو ويهبط كمن خرج من قاع البحر... تنظر إليه خديجة بقلق ودهشة:
- «ما بك يا ابن عبدالله؟»
- «لقد خِفت على نفسي... جاءني جبريل... قال لي: اقرأ!»
وهنا... يختصر محمد -صلى الله عليه وسلم- كل قلق النبوة في سؤال واحد:
«ومن سيصدقني يا خديجة؟!»
مشاعر الإنسان... لا مشاعر النبي فقط، في تلك اللحظة لم يكن محمد النبي، ولا الرسول المبعوث، بل كان الإنسان الذي يواجه أكبر اختبار:
هل أنا مجنون؟
هل كل ما عشته من صدق وأمانة واحتمال وصبر كان فقط ليقال عني في النهاية: أصابه شيء من الجن؟ كان يتذكر أيام فقد أمه، وأيام اليتم عند جده، وساعات الرعي وحيداً في بادية بني سعد، ثم ليالي التأمل الطويل في حراء...
كل هذا ليواجه الآن شكوك مكة كلها!
وفي عيني خديجة... وجد الجواب:
- «والله لا يخزيك الله أبداً...»
خديجة لم ترَ جبريل، ولم تسمع الوحي، لكنها رأت في عيني محمد -صلى الله عليه وسلم- صدقاً لا يخطئه قلب.
كانت أول من صدق، أول من صدّر الطمأنينة، أول من قال له:
«لا... أنت لست مجنوناً. أنت صادقٌ أمينٌ، تصل الرحم، وتحمل الكَلَّ، وتكسب المعدوم...»
وفي تلك الليلة، بدأ تاريخ جديد... من بيت صغير في مكة، إلى كل بيت فوق الأرض.
من رجل متحنث في غار... إلى أمة من مليارين!
من كان يظن أن ذاك الرجل الذي احتضنته خديجة بين يديها، سيصبح اليوم قدوة لأكثر من ملياري إنسان؟ من كان يظن أن تلك الدموع المرتجفة ستصبح نوراً يفيض على قلوب لا نهاية لها؟ كل نبي، وكل مرسل من الله، يبدأ بصدى سؤال كهذا: «من سيصدقني؟».
ويكون الجواب دائماً في صدق التجربة، وفي عمق الألم، وفي الأمانة مع النفس.
محمد -صلى الله عليه وسلم- خرج من الغار مرتجفاً، لكنه لم يخرج وحده.
معه حملت خديجة ثقله، وسار معه أبوبكر، وأحبّه علي، وآمن به بلال...
ثم صبر على السخرية، والاتهام، والإيذاء.
لم يأتِ النصر في يوم وليلة.
بل في كل ليلة كان ينام فيها على يقين بأن الله أصدق من قريش، وأن قلب خديجة أحن عليه من كل مكة.
اليوم، يردد المسلمون الشهادتين في كل قارة... واسم محمد -صلى الله عليه وسلم- الأكثر ليس فقط في بلاد المسلمين ولكن أيضاً في بلاد الإنكليز.
لكن الحقيقة أن كل إسلام جديد هو صدى لتلك اللحظة الأولى، حين وقف محمد -صلى الله عليه وسلم- أمام خديجة وقال:
«ومن سيصدقني يا خديجة؟!».
وكل مؤمن جديد يردد في سره السؤال نفسه، ويجد الجواب في عيني أمٍّ، أو صديق، أو زوجة أو قلب يصدق وينصت للحق.
هكذا بدأت الرحلة... وهكذا تستمر... وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله... أبتر... وكل ما لا يُراد به وجه الله يضمحل.