بعد أن تمَّ إعلان انتهاءِ عملية «عاصفة الصحراء» ودحرِ القوات العراقية خارج الحدود الكويتية، فبراير (شباط) 1991، بدا أن «التحالف الدولي» الذي كانت نواته الصلبة: السعودية، الولايات المتحدة، المملكة المتحدة، قد نجح في كبح جماح الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، وتكبيد جيشه هزيمةً عسكريةً سريعةً وصريحة.
هذه التجربة شجعت السعودية على تطويرها من أجل دعم الأمن والاستقرار الدوليين، ضمن إطار القرارات الأممية عبر «الأمم المتحدة» أو «مجلس الأمن»، وتحديداً بهدف وقف المجازر وعمليات التطهير العرقي التي مارستها القوات الصربية في البوسنة والهرسك، والتي يمكن التأريخ لحربها الدموية في أبريل (نيسان) 1992، حين حاصرت القوات الصربية سراييفو!
تواصلت الرياض مع الإدارة الأميركية في واشنطن حينها، وحثتها على الانخراط العملي من أجل وقف المجازر بحق المدنيين العزل، إلا أن الرئيس الراحل جورج إتش دبليو بوش كانت لديه تعقيدات داخلية حدت من قدرته على أخذ موقف عملي - عسكري، غير أنه في الوقت ذاته أبدى استعداده الكامل للدعم السياسي والقانوني في المحافل الدولية.
الانتخابات الرئاسية الأميركية أخرجت بوش الأب من «البيت الأبيض» وأتت بالرئيس بيل كلينتون في نوفمبر (تشرين الثاني) 1992، ليؤدي القسم تالياً في 20 يناير (كانون الثاني) 1993.
بعد بدء كلينتون مهامه في «المكتب البيضاوي» عادت الاتصالات مجدداً مع السعودية، وجرى الحديث عن الطريقة المثلى لوضع حدٍ لمجازر القوات الصربية، وجرى الاتفاق على أن يكون هنالك تعاون مع المملكة المتحدة في هذا الصدد، بدعم وتنسيق من السعودية، التي لعبت دوراً محورياً في حشد الموقف السياسي والرأي العام الدولي، وتذليل بعض العقبات التي كان من شأنها أن تجعل مهمة «قوات الناتو» أكثر صعوبة، بسبب الإرث التاريخي الثقيل للحربين العالميتين الأولى والثانية، تحديداً دور ألمانيا، وتحفظ بريطانيا على حجم هذا الدور وحدوده!
الجهد السياسي للرياض الذي نجح في تدوير الزوايا تزامن مع عمل إغاثي إنساني، حيث أصدر الراحل الملك فهد بن عبد العزيز أمراً بتأسيس «الهيئة السعودية العليا لمساعدة شعب البوسنة والهرسك» عام 1992، وترأسها الملك سلمان بن عبد العزيز، الذي كان حينها أميراً لمنطقة الرياض، بهدف جمع التبرعات والإشراف على المساعدات، وتوفير الغذاء والدواء والكساء والمأوى، ونقل المصابين للعلاج على نفقة المملكة في مستشفياتها.
بعد ذلك انخرطت الرياض في دعم جهود إعادة الإعمار، وإصلاح البنية التحتية، وإنشاء المستشفيات والمدارس ودور العبادة، وبناء مؤسسات الدولة التي خرجت مثقلة من حرب موجعة!
هذا الدور السعودي الداعم للسلام والتعايش بين مختلف الأعراق والأديان في قلب أوروبا لم يتوقف عند حدود البوسنة والهرسك، بل استمر حين وقعت حرب كوسوفو، فبراير 1998، التي كان من أبشع ما حصل فيها «مجزرة رشاك» عام 1999، حين قتلت القوات الصربية عشرات المدنيين الألبان، مما أثار غضب المجتمع الدولي، خصوصاً أن الصرب واصلوا عملية «التهجير العرقي»، وهو الأمر الذي دفع «قوات الناتو» إلى شن حملة جوية استمرت 78 يوماً أفضت إلى توقيع «معاهدة كومنوفو» في 11 يونيو (حزيران) 1999، التي بموجبها انسحبت القوات الصربية من كوسوفو.
هذه الخلفية التأريخية مهمة جداً، لأنها تفسر سبب زيارة رئيسة جمهورية كوسوفو فيوسا عثماني سادريو إلى السعودية، ولقائها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، ومشاركتها في منتدى «مبادرة مستقبل الاستثمار»، وتالياً اللقاء الثلاثي الذي جمعها مع ولي العهد السعودي والرئيس السوري أحمد الشرع، حيث تم إعلان اعتراف سوريا بدولة كوسوفو.
رئيسة كوسوفو اعتبرت الاعتراف السوري «ذا أهمية تاريخية بين الدولتين»، كونه «يرتكز على الاحترام المتبادل للنضال الطويل من أجل الحرية، والاعتراف المتبادل بالسيادة والسلامة الإقليمية، والالتزام بالتعاون الثنائي وإقامة العلاقات الدبلوماسية»، مبديةً في الوقت ذاته «بالغ تقديرها وامتنانها لدعم الأمير محمد بن سلمان آل سعود»، الذي «جعلت قيادته وتوجيهاته نتائج اجتماعنا الثلاثي تاريخية لشعبي كوسوفو وسوريا على حد سواء».
لقد مثل اللقاء الثلاثي في الرياض تتويجاً لمسارٍ طويل من «الهندسة الدبلوماسية الهادئة»، حيث لم تعد السعودية مجرد راعٍ إنساني يساعد الدولة الصديقة، بل تقوم بدور دبلوماسي فاعل واستباقي قادر على تحقيق اختراقٍ في ملفاتٍ كانت مجمدة لسنوات، فالنظام السوري السابق لم يكن يعترف باستقلال كوسوفو، بسبب علاقات دمشق بموسكو، حيث تدعم الأخيرة وجهة النظر الصربية!
فيما يخص دمشق، فإن الاعتراف السوري بكوسوفو، وفق البيان الرسمي يستند إلى «إيمان الجمهورية العربية السورية بحق الشعوب في تقرير مصيرها، ورغبتها في تعزيز السلام والاستقرار». إنما قراءة توقيت هذا الإعلان ومكانه تكشف أن القرار جزء من إعادة تموضعٍ سياسي محسوب بدقة بعد عقدٍ من الانكفاء والعزلة العربية والدولية. فدمشق التي كانت تساند بلغراد متأثرةً بالموقف الروسي الرافض لاستقلال كوسوفو، انتقلت اليوم إلى مقاربة أكثر مرونة وواقعية، مدفوعة بحاجتها إلى الانفتاح على شركاء جدد، وبفهم متزايد أن الاصطفاف الصلب لم يعد ممكناً في النظام الدولي المتحول، باعثة بذلك رسائل سلامٍ في اتجاه الأوروبيين تحديداً، وكأنها بذلك تسعى لتوثيق علاقاتها مع مختلف الدول الأوروبية، لتذلل أي مخاوف من جانب العواصم التي لا تزال مترددة في الانفتاح على الحكم الجديد في دمشق.
كوسوفو هي الأخرى ترى في مشاريع وسياسات الرياض رافعة لأن تساهم في تعزيز مكانة البلاد، وهو ما عبرت عنه صراحة الرئيسة فيوسا عثماني في حوار مع قناة «العربية»، حيث أكدت أن هنالك «فرصة مهمة لتعزيز التعاون الاقتصادي وجذب الاستثمارات» كاشفة أن استراتيجية كوسوفو الاقتصادية «تتوافق مع أهداف التنمية المستدامة، وتسعى لبناء اقتصاد متنوع قائم على الابتكار والشراكات الدولية»، واصفة السعودية بأنها «شريك أساسي في دعم التنمية والسلام في المنطقة والعالم»، وهذا ما تسعى له الرياض، أن تكون الشراكة مدخلاً لبناء تفاهمات أكثر متانة وديمومة، تحد من النزاعات وتعالج الأزمات المزمنة.

