خيرالله خيرالله
في الذكرى الخامسة لانفجار مرفأ بيروت، يوم 4 أغسطس 2020، لا تزال الرواية الرسمية متصدعة، والتحقيق القضائي مشلول، والمجرم مجهول. لكنّ ما هو واضح، أن «حزب الله» تعامل مع هذه الجريمة، التي أدت إلى مقتل أكثر من 218 شخصاً، وإصابة 7.000 على الأقل، وتشريد نحو 300.000 إنسان، والتسبب بأضرار تجاوزت قيمتها 15 مليار دولار، كما يتعامل مع كل شيء في الدولة، بالتهديد والتعطيل وفرض الهيمنة.
لا نعرف، وربما لن نعرف أبداً، ما إذا كانت نيترات الأمونيوم التي فجّرت بيروت، هي جزء من ترسانة «حزب الله»، ولا إن كانت استُخدمت لتصنيع البراميل المتفجرة في الحرب على الشعب السوري، كما تشير تقارير موثوق بها، لا سيما أن من استوردها مرتبط بكل من نظام بشار الأسد البائد و«حزب الله».
لا نملك الدليل القاطع على الصيغة التي سمحت بدخولها وتخزينها وحراستها، على الرغم من كلّ المعلومات عن رسو سفينة معيّنة في مرفأ بيروت وتفريغ حمولتها فيه.
لكننا نعرف أمراً واحداً، لا يختلف عليه اثنان في لبنان وهو أن «حزب الله» تصرف، منذ اللحظة الأولى، كما لو أن التحقيق يهدده، وكأن العدالة مشروع استهداف مباشر له.
لم يتردد الحزب في اتخاذ موقف عدائي علني من المسار القضائي الذي أُنيطت به متابعة الملف. من التهديد العلني للقاضي طارق البيطار، إلى اقتحام قصر العدل من قبل أحد بلطجية أمن «حزب الله»، إلى التحريض على القضاء في بيانات سياسية وحملات إعلامية مقززة، كان الحزب يتصرف بأعلى درجات الذعر، ويوظف كل الجهود الممكنة لدفن الحقيقة. فأي قوى «بريئة» تحتاج إلى كل هذا العنف لمنع كشف الوقائع؟
ما لا يختلف عليه اللبنانيون أيضاً، ويدركونه بما يشبه الفطرة، أن المرفأ خضع لعقود طويلة لنفوذ «حزب الله»، وكان جزءاً من شبكة الدويلة، أو الدولة، التي بناها داخل الدولة اللبنانية، وشملت، إلى المرفأ، المطار، والمعابر البرية، والجمارك، وبعض القضاء والإعلام والأجهزة الأمنية وغيرها!
كان المرفأ مورداً مالياً، وممراً لوجستياً، وغرفة عمليات موازية، توجب منع الاقتراب منه قضائياً أو أمنياً، وكأن في ذلك مس بأحد أعصاب الحزب وحتّى بعلة وجوده.
نعم، قد لا يكون الحزب هو مَن تسبب بالتفجير، الذي صنف كثالث أكبر انفجار غير نووي في العالم، بحسب تقديرات العديد من الخبراء العسكريين والفيزيائيين. وقد لا يكون هو من استورد المادة لمصلحة بشار الأسد. كل شيء وارد.
لكن من الواضح أنه هو، دون بقية القوى السياسية، من قرر ألا يُحاسب أحد، وهو من حوّل قضية الانفجار إلى واحد من أعنف الاشتباكات السياسية في لبنان.
في الذكرى الخامسة يكفي أن يتذكر اللبنانيون هوية مَن عطّل التحقيق، وهاجم القضاء، وشيطن أهالي الضحايا وهدّد الإعلاميين، على نحو مهد ربما لقتل الكاتب والناشر الشجاع لقمان سليم. ذهب لقمان إلى حد تحديد دور الحزب في الاستفادة من نيترات الأمونيوم في إطار الحرب على الشعب السوري.
لم يكن هذا الزلزال الذي ضرب بيروت، ووصل صداه الى قبرص، مجرد جريمة. إنه لحظة انكشاف أسفرت عن وجهٍ مرعبٍ للبنان، كبلد مخطوف، ومؤسسات مرتهنة، وعدالة معلقة.
صحيح أن الحرب الأخيرة بين «حزب الله» وإسرائيل، وما تفرضه من تحديات أمنية وإستراتيجية كبرى، تطول وجود حزب الله وسلاحه برمتيهما، إلا أن الصحيح أيضاً أنّ ذلك لا يعفي الدولة اللبنانية من مسؤولياتها القضائية والوطنية.
فالدولة مسؤولة عن عدم تحوّل ضحايا انفجار المرفأ إلى «ضحايا جانبيين» بسبب احتدام الصراع الإقليمي الجاري.
بل لعلّ اللحظة الحالية، بما تحمله من تبدّل في موازين القوى، تتيح فرصة مهمة لاستعادة ما تم سلبه من الدولة ومن اللبنانيين. وعليه فإن حكومة الرئيس القاضي نواف سلام، وبغطاء من الرئيس جوزاف عون، مطالبة بأن تثبت أنها تمثل قطيعة حقيقية مع منطق الإفلات من العقاب.
فلا يوجد أسهل من أن يثبت العهد الحالي أنه مختلف عن زمن ميشال عون وجبران باسيل وحسان دياب.
فوق كل ذلك، لم يُحرّك ميشال عون ساكناً إزاء سلوك الحزب العدائي تجاه التحقيق، بل على العكس، تبنّى في أكثر من مناسبة روايته المشككة. رفض أي تحقيق دولي في كارثة تفجير مرفأ بيروت تفادياً لمعرفة الحقيقة يوماً... على غرار معرفة من قتل رفيق الحريري.
من أخطر ما كشفته السنوات الخمس التي مرت منذ انفجار المرفأ هو كيف استطاع «حزب الله» تحويل الجريمة إلى فرصة لإعادة تعريف «الأمن الوطني» بحيث لم يعد يعني سلامة المواطنين أو العدالة للضحايا، بل سلامة الحزب من الملاحقة أو المساس بمعنوياته وسمعته.
المطلوب ليس طمس الحقيقة فحسب، بل تعميم فكرة أن لا أحد في لبنان يُحاسب «حرب الله» أيضا، لا في القضايا الكبرى ولا في ملفات الفساد والإهمال والذهاب إلى المشاركة في قتل أبناء الشعب السوري.
بالاستناد إلى كل ذلك، تبدو قضية المرفأ اختباراً حقيقياً للأمل الذي حمله اللبنانيون حين وصل الثنائي عون - سلام إلى سدة المسؤولية، وهما معنيان بألا يكونا شاهدي زور في مواجهة استمرار منطق الجريمة بديلاً من منطق العدالة.