: آخر تحديث

الأستاذ سعد ومستغانمي والرحباني

4
5
4

سبق أن كتبت الأديبة الجزائرية «أحلام مستغانمي» مقالا، تبدي فيه استياءها لأن استقبالها في مطار بيروت لم يكن بحجم ذلك الذي حظيت به «المطربة»! رددت عليها في حينه بأن هذا من طبائع الأمور، فللفنانين، بشكل عام، مكانتهم الجماهيرية في القلوب، وفي أية حضارة أو ثقافة وجدت، ويحظون بشعبية لا يحظى بها مثلا كبار العلماء وعباقرة الأطباء وعظماء الكتاب، فشعبية هؤلاء محصورة ضمن نطاق عملهم. لذا نرى أن المدعوين لحفلات البيت الأبيض والبلاطات الملكية وبيوت المليارديرية، في غالبيتهم ممثلون ومطربون وموسيقيون!

* * *

توفي قبل أيام الفنان الكبير زياد الرحباني، وكتبت فيه رثاء، لكن يبدو أنه لم يعجب البعض، ومنهم الصديق الأستاذ «سعد بن طفله»، الذي وصف زياد بأنه «انسان خاو ومريض ومليء بالعقد النفسية»، وأن له مواقف حادة ونظرة دونية، ممزوجة بالاحتقار، لدول الخليج، وأن ذلك، في غالبه، يمثل موقف اليساريين والمثقفين وكبار الكتاب والمفكرين العرب، نراها ماثلة في أقوالهم ومواقفهم الاستعلائية، والتي تبين وجود أزمة لديهم، وصفها بأنها غالبا جزء من أزمة الواقع العربي، المتمثلة في أفضلية أو علو كعب أهل «الحضارات» مقارنة بعرب الصحراء، غير مدركين أن هذه الدول تقدمت وأصبحت أكثر تطورا من دول الحضارات، التي لا يمت مستواها المعيشي الحالي لما كانت عليه قبل آلاف السنين.

* * *

لا أعتقد أن الموضوع بهذه البساطة، ولو أنه يمثل الحقيقة وجاهل من يحاول طمسها، لكن الكلام عن الموقف من أهل الخليج يسري على مختلف الفئات، لكن ليس من العدل شمول كل الفنانين والمبدعين بها، فزياد، بالرغم من عشرات الأقوال الحكيمة والطريفة والمبكية وحتى السخيفة والمتحيزة جدا التي نسبت له، لم يكن يوما مفكرا ولا كاتبا ولا محاضرا، ولا حتى عالي الدراسة والثقافة، بل فنانا، أولا وأخيرا، يتنفس الموسيقى كما يتنفس الهواء، ونجح باقتدار في أن يثري حياة مئات الملايين، على مدى أربعين عاما، بأعمال ستبقى خالدة، وهذا ما يجب أن يعنيه لنا، وليس مواقفه السياسية وعقيدته اليسارية. فقد كانت ليلى مراد، بصوتها الجميل، يهودية، وكان الاخوان صالح وداود الكويتي، اللذان هاجرا لإسرائيل تاليا، يهوديين، ولم يشكل ذلك الأصل أو الدين، المختلف، عائقا أمام الاستمتاع بتراثهم الفني، الخالد.

نظرة المثقفين والمفكرين، وأصحاب الحضارات، السلبية، لشعوب الخليج، ليست حالة فردية ولا يجب الوقوف عندها طويلا، ومحاسبة كل مثقف وكاتب وروائي وفيلسوف، على موقفه منا، فبهذا سنحرم أنفسنا من جزء عظيم من التراث الفكري والثقافي العالمي. فالنظرة الدونية، أو الفكرة الخاطئة عن أهل الخليج، والموقف السلبي منهم، تصرف طبيعي، سواء كان وراء ذلك مفكر أو مطرب أو سائس، فهذه طبيعة البشر، ونال الأمريكيون، بعد الحربين العالميتين، المعاملة الدونية نفسها من الشعوب الأوروبية التي كانت تنظر لهم كممثلين لثقافة الكاوبوي والغرب المتوحش، المتخمين بالدولارات، ناقضي الحضارة والثقافة، أحفاد حثالة المجتمعات الأوروبية، التي هاجرت للعالم الجديد. لكن هذا الأمريكي «الكاوبوي»، استطاع خلال عقدين أو ثلاثة من الزمن أن يتبوأ أعلى مراتب العلم والتقدم في كل ميدان، وصاحب الفضل الأكبر على أوروبا، أمنيا وماليا، والأعلى فوزا بمختلف الجوائز وفي كل ميادين الإبداع، ومثالا يحتذى وقدوة لكل الشعوب المضطهدة، قبل أن تنعكس الأمور.

يجب أن نعترف بأن لدينا في الخليج شحا حضاريا وفقرا ثقافيا، وشبه ندرة في الإبداع، ولكننا اليوم أفضل مما كنا عليه بالأمس، وسنكون أفضل بكثير مستقبلا، ومحاربة أو الرد على الفكر الذي يمثله زيدان وأدونيس والاسواني وغيرهم لا يكون بمقاطعة أعمالهم، أو التهجم عليهم، بل بالعمل لأن نكون روادا في الأدب وقادة في الفن، وحماة للثقافة، وهذا لا يمكن أن يتحقق بغير توفير أجواء تتسم بقدر كبير من الحرية، فالكويت ولبنان كانا، لسنوات، الأكثر «إبداعا»، مقارنة بمحيطهما، لأسباب معروفة، لكن كيف يمكن دعم الأدب والثقافة والفكر بوجود رقباء يعدون على المبدعين انفاسهم، ويوقفون إصدار العربي، حاملة لواء الثقافة الكويتية، لأكثر من نصف قرن، للعالم أجمع، ويمنعون طباعة عالم المعرفة وغيرها؟؟

لقد نجحنا بأموالنا في شراء «كل شي» تقريبا، لكن الثقافة والإبداع الفكري لا يمكن شراؤهما، بل يمكن زرعهما وسقيهما، وتاليا حصد نتائجهما.

* * *

ما سيبقى في ذاكرة التاريخ، يا عزيز سعد، ليس مواقف زياد من دول الخليج وآراؤه في نصر الله وتأييده للأسد، بل «سلم لي عليه» و«كيفك أنت» و«ع هدير البوسطة» و«بكتب اسمك يا حبيبي»، و«ميس الريم» و«نزل السرور»، و«بما إنو» وغيرها!!


أحمد الصراف


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد