: آخر تحديث

لماذَا توجد دولٌ غنية ودولٌ فقيرة؟ الثَّقافة (2)

2
2
3

تلعبُ الثقافة دوراً حاسماً في نجاح الأممِ وفشلها. فالثَّقافة، كما يقصدُها توماس سويل، ليست الفنونَ أو العادات أو الفلكلورَ الشعبي، بل الطبقة الأعمق من الوعي الجمعي، حيث تتكوّن العاداتُ الذهنيةُ والقراراتُ الصغيرةُ التي تحدّد السلوكَ اليومي للأفراد: كيف يفكّرون، كيف يدَّخرون، وكيف يروْن الغد. هذه القرارات الصغيرة، حين تتكرّر عبر الأجيال، تصنع عقلاً اقتصادياً يميّز أمةً عن أخرى.

يُطرح سؤالٌ متكرر: لماذَا تنجح جماعاتٌ صغيرةٌ بلا سلطة سياسية في السيطرة على قطاعاتِ التجارة والمصارف؟ يجيب سويل بأنَّ السَّببَ هو امتلاكها لما يسميه رأس المال الثقافي، أي القيم العملية مثل الانضباط، والتعليم، والادخار، واحترام الوقت. هذه القيم هي التي تشكّل الثروة الحقيقية، لأنَّها تخلق القدرةَ على الإنتاج المتواصل لا الاستهلاك العابر.

نرَى هذا بوضوح في الجماعات الصينية المنتشرة في آسيا. ففي سنغافورة وتايلند والفلبين وإندونيسيا، نجد أنَّ الصينيين يملكون معظمَ الثروة التجارية والمالية رغم كونهم أقلية. واليابان مثال آخر: بعد هزيمتها المدمّرة في الحرب العالمية الثانية، استطاعت خلال عقودٍ قصيرة أن تتحوَّل إلى قوة صناعية عالمية. لم يكن ذلكَ معجزةً، بل ثمرة ثقافة راسخة تقوم على الانضباط، والإتقان، والولاءِ للمؤسسة، والاحترام العميق للعمل الجماعي.

أمَّا اليهود، فتمثل تجربتهم مثالاً فريداً على كيفَ يمكن للثقافة أن تكونَ آلية للبقاء. فالتقاليدُ التي تمجد التعلمَ، وتربط الكرامة بالاستقلال المالي، جعلت منهم، رغمَ قلتهم، نخبةً مالية وعلمية في أوروبا وأميركا.

وبالطريقة نفسِها، تميَّزتِ الدولُ البروتستانتية في أوروبا - مثل ألمانيا وبريطانيا وهولندا - بنجاحها الاقتصاديّ مقارنةً بالدول الكاثوليكية المجاورة. السببُ في رأي سويل أنَّ البروتستانتية ركَّزت على الأخلاق العملية بدل الوعظ النظري، وعلى قيمة العمل والانضباط بدل الطقوس الدينية. كانَ العمل لديهم تعبيراً عن الإيمان لا عن العقاب، لذلك نشأت لديهم روح رأسمالية مبكرة.

ويقدّم سويل أمثلةً أخرى لتوضيح الفكرة نفسها. فالهنود، رغم كونهم أقليةً في شرق أفريقيا، أصبحوا محركاً أساسيّاً للاقتصاد بسبب التزامهم التجاريّ والعائليّ الصارم. أمَّا فيتنام، التي خرجت من عقود من الحروب المدمّرة، فقد حققت نموّاً اقتصادياً متسارعاً لأنَّها اعتمدت على أخلاقياتِ عمل قوية واحترام للجهد الفردي. كذلك تايوان وهونغ كونغ، اللتان تحولتَا رغم صغر مساحتِهما وندرة مواردهما إلى مركزين ماليين مزدهرين بفضل ثقافة الإنتاج لا بفضل تدخّل الدولة.

ويعود سويل إلى التاريخ الأوروبي ليضرب مثالاً بهولندا في القرن السابعَ عشر، التي كانت دولةً صغيرةً فقيرةً بالموارد لكنَّها أصبحت مركزاً ماليّاً عالميّاً لأنَّ الثقافة السائدة فيها كانت تُعلي من قيمة الثقة. النَّاس كانوا يلتزمون العقودَ والاتفاقات حتى من دون وجود سلطةٍ قاهرة، لأنَّ السمعة الاقتصادية كانت تمثل رأسَ مالٍ أثمن من الذهب. في الوقت نفسه، كانت إسبانيا والبرتغال تسبحان في الذهب القادم من العالم الجديد، لكنَّه أفسدهما بدل أن ينهضَ بهما. لم تستطيعَا بناء نظام اقتصاديّ منتج، لأنَّ الثروة جاءت بلا جهد، فتحوَّلت عبئاً ثقافيّاً جعل الناسَ يتعلّمون أنَّ الطريق القصير أفضل من الطويل، وأنَّ النفوذ يغني عن المهارة.

بهذا يخلص سويل إلى أنَّ الثروة ليست في الموارد، بل في المنظومة الثقافية التي تحكم علاقة الناس بالعمل والزمن والمستقبل. فالمجتمعات التي ترى في الجهد طريقاً طبيعياً للمكافأة تصنع تقدّمَها بنفسها، بينما تلك التي ترى في الثروة هبةً من الخارج تفقد الحافز على الإنتاج.

ويؤكد أنَّ الثقافة الاقتصادية لا تتغيَّر بالخطب والمواعظ الأخلاقية أو بالقوانين، بل حين يتغيّر الواقع الذي يعطيها معناها. فإذا كانتِ البيئة تكافئ الانضباطَ والإتقان، فستنتشر هذه القيم في المجتمع، أمَّا إذا كافأتِ الحيلة والمظلومية أو المحسوبية، فستسود ثقافة الارتجال والفساد والغش والاعتماد على العلاقات.

من هنا نفهم لماذَا تتفاوتِ الأمم رغم امتلاكها للموارد نفسها. فالثروة ليست كميةَ المال التي تملكها الدولة، بل نمط تفكيرها في العمل والزمن. اليابان وسويسرا وهولندا وألمانيا أمثلة لدول حوَّلت ثقافتها طاقةً إنتاجية، بينما دول أخرى تملك المال والموارد، لكنَّها تفتقد المنظومةَ العقلية التي تجعل المال قابلاً للزيادة والتكاثر.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد