: آخر تحديث

«الربيع الصامت».. الكتاب الذي أجبر العالم على الإصغاء

2
1
1

قبل أكثر من ستين عامًا، تجرَّأت امرأةٌ -تتَّسم عادةً بالهدوءِ- على إطلاق إنذارٍ صاخبٍ كان أشبه ما يكون -حينها- بـ»جرس إنذار كوني» صادم.. فراشيل كارسون، لم تكن سياسيَّة، أو ناشطة بيئيَّة، بل عالمة أحياء بحريَّة، كتبت بمهنيَّة وبضمير أخلاقيٍّ حول قضيَّة تؤمنُ بها، وتثق بأهميتها وعدالتها، وقامت بتوثيقها عام 1962 في كتابها الشهير Silent Spring (الربيع الصامت)، والذي أعلنت فيه أنَّ «العالم يتَّجه نحو ربيع بلا طيور، وبلا نحل، وبلا حياة.. ليس بسبب حرب نوويَّة مدمرة، بل بسبب التلوث الصامت الذي تصنعه يد الإنسان».

الكتاب كان ثوريًّا بمعنى الكلمة، فقد كُتِبَ في مرحلة كان فيها الإيمان بالتقدُّم الصناعيِّ أمرًا شبه مُقدَّس، وكانت شركات الكيماويَّات الأمريكيَّة تتمتَّع بنفوذ اقتصاديٍّ وإعلاميٍّ هائل.. وما إنْ نُشر الكتاب؛ حتَّى فَتَحَت عليه تلك الشَّركات حربًا واسعةً، متَّهمةً كارسون بأنَّها «مناهضة للتقدُّم»، «عاطفيَّة»، «مُنظِّرة»، وذهب بعضهم لوصفها بأنَّها «امرأة لا تفهم الاقتصاد».. ووصل الأمر إلى تنسيق حملات علاقات عامَّة منظَّمة لتشويه صورتها وصورة كتابها؛ قبل أنْ يصل إلى صُنَّاع القرار. ورغم هذا الضغط الهائل، تمسَّكت كارسون برأيها، وقدَّمت دراسات ميدانيَّة، وأبحاثًا مخبريَّة علميَّة يصعب تفنيدها، تاركةً الحقائق تتحدَّث عن نفسها.. وما هي إلَّا شهور قليلة حتى بدأ الرأي العام الأمريكي يميل إلى جانبها، لتتحرك لاحقًا الحكومة، وتبدأ موجة تشريعات بيئيَّة انتهت بحظر مادة الـDDT، وتأسيس وكالة حماية البيئة (EPA) كإحدى النتائج غير المباشرة لكتابها.

وللمفارقة، لم يُنصف العالم «راشيل كارسون» إلَّا بعد رحيلها، ففي عام 1980 مُنحت بعد وفاتها أرفع وسام مدني في الولايات المتحدة، وهو «الميداليَّة الرئاسيَّة للحريَّة»، وأصبحت تُدرَّس لاحقًا في الجامعات الأمريكيَّة كنموذج لأخلاقيَّات المهنة، وشجاعة الموقف، بعد أنْ كانت تُتَّهم قبل ذلك بالتهويل والتنظير وإعاقة التقدُّم. أهمية كتاب «الربيع الصامت» اليوم تتجاوز قيمته التاريخية، فهو يقدِّم درسًا هامًّا لكلِّ مَن يخوض معركة فكريَّة أو علميَّة تتَّسم بالجدة؛ والاختلاف عن السائد والمألوف، بضرورة التحلِّي بالصَّبر، فكل فكرة جديدة تبدأ عادةً بمرحلة «التهوين والتشكيك»، ثمَّ تمرُّ بمرحلة «السخرية والتسخيف»، وصولًا للمقاومة والإقصاء والعنف الفكريِّ، ومحاولات الاغتيال المعنويِّ؛ قبل أنْ يُعترف بها في آخر المطاف.. وراشيل كارسون واجهت جميع هذه المراحل دفعةً واحدةً؛ دون أنْ تستسلم وتتراجع.

رسالة كتاب «الربيع الصامت» لنا اليوم ليست بيئيَّة فقط، فمثلما واجهت كارسون كل تلك الصعوبات والعقبات، فإنَّ علينا جميعًا أنْ ندرك بأنَّ هناك دائمًا مَن سيقفز فورًا لوصف كل فكرة ورُؤية جديدة بأنَّها تنظير أو تهويل أو حتى جنون.. لا لشيء إلَّا لأن الجديد يقلق المطمئنين على نمطهم ورتابتهم، أو على مصالحهم ومكانتهم، فالأفكار العميقة تُقاوَم أولًا، ثم تُناقَش، ثم تُحتضَن، فقط إذا صمد أصحابها ولم يتراجعوا تحت الضغوط.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد