في الظاهِر، قد يَبدو بوتين المُستفيد الأكبر مِن كيم جونغ أون، الذي يُرسِل له الجنود والمَدافع والدبابات الى جَبَهات القتال مع أوكرانيا، خصوصاً مع مَشاهد الجنود الكوريين الشماليين وهم يُفجرون أنفسهم قبل أن يَتم أسرَهُم مِن قِبل الأوكران، لكن ما خَفيَ كان أعظَم، وقد يَكون على العَكس مِمّا تُظهره الكاميرات، وتتحَدّث عَنه الصُحُف والمَجَلات!
هنالك حوالى 10 آلاف جندي كوري شمالي تم نشرهم من قبل القيادة العسكرية الروسية في كورسك جنوب روسيا. ووفق الأخبار لم يكونوا على عِلم بالمكان الذي سينقلون إليه، وهُم مُرهَقون لدرجة أن بَعضهم يطلق النار على المَواقع الروسية. كما أرسَلَ كيم جونغ وقوداً لمَدافع جيش بوتين، أحرَقه الأخير بلا هوادة، فقد ذكَرَت بَعض المَصادِر أن كوريا أرسَلَت 20 ألف حاوية ذَخيرة لبوتين في كانون الأول (ديسمبر) 2024، ويُقال أيضاً أن كيم زَوّده بمَدافع هاوتزر ذاتية الدفع وقاذفات صَواريخ. تشير التقديرات الى أن كوريا الشمالية كسَبَت الى الآن حوالى 5,5 مليار دولار مِن صَفَقات الأسلحة مع موسكو، وهو رقم كبير بالنسبة لواحِدة مِن أفقر دول العالم، رغم أن كيم، يَحصل مِن روسيا على ما هو أكثر بكثير مِن المال مُقابل دَعمه لبوتين.
لقد باتت مَقاطع الفيديو، التي تُظهر السيّاح الروس يَتجَوّلون في شوارع كوريا الشمالية، أو يَقومون بجَولات في مُدنها، أو يَستلقون على شواطِئها، أو يتناولون الطعام في مَطاعِمها، شائِعة بمَواقع التواصل خلال الفترة الأخيرة. منذ أن تم السَماح للروس بقَضاء إجازتهم في كوريا الشمالية، شاركوا مَقاطع فيديو خاصة بهم على مَواقع التواصل. وفقاً للإعلام الروسي، فإن 1500 سائِح روسي زار كوريا عام 2024، والعَدَد آخِذ في الإرتفاع. يَسمَح نظام كيم للكوريين الموالين له بالتواصُل مَعَهم، بالمقابل يقوم السيّاح الروس بجَولات دعائية لتقديم كوريا الشمالية بشَكل عَصري، ويؤكدون ذلك في مَقاطع الفيديو الخاصّة بهم، وهو ما يَصُب ويَتَماشى مع مَصلحة وبروباغندا نظام كيم. لكن الصور تتحَدّث أحياناً دون قَصد بلغة أخرى، خُصوصاً خارج بيونغ يانغ، حَيث يُمكن رؤية أُناس يُعانون سوء التغذية ومَحَطات طاقة تعمَل بالفَحم.
الغَزو الروسي لأوكرانيا أتاح لدكتاتور مَعتوه ككيم فُرصة التغلب على عُزلته. فبوتين كالغَريق المُتَعَلّق بقِشّة، رَغم عِلمِه بأن التَحالف مَع دَولة مَنبوذة ككوريا الشمالية، يُمَثِّل خَسارة فادِحة لماء وَجه روسيا دولياً. فحَتى شَريكته السِتراتيجية الصين لا تَدعَمَه بالسِلاح والجُند، لذا سارَعَت كوريا الشمالية للإنخراط في حَربه بسُرور. مِن ناحية أخرى، يُعتبَر بوتين بالنسبة لكيم بَقَرة حَلوب لجَلب العُملة الأجنبية الى بلاده، إذ يَتعَيّن على السيّاح الروس الدَفع بالدولار. وكيم لا يُريد مِن بوتين كَسِر عُزلته فقط، بل وتحديث مؤسسته العَسكرية، ما يُشَكِّل خطَراً على كل آسيا. فقد ُتجَمّد الصِراع مُنذ توقف القتال بين الكوريتين عام1953، وأنتَجَ سَلاماً قائِماً لليوم. بوتين الآن يُهَدّد هذا السلام، فبَعد تحالفه مَع كيم، صَنّف الأخير جارته الجنوبية كدَولة مُعادية، كما وَقّعَت موسكو وبيونغ يانغ إتفاقية دفاع، وإذا بات بإمكان كوريا الشمالية إطلاق صواريخ نووية على كوريا الجنوبية، فستتغيّر موازين القوى في شبه الجزيرة الكورية. ممِاّ سَيزيد مِن خَطَر الحَرب.
الصَفقة بالنسبة لدكتاتور مُختل مثل كيم رابحة جداً، فهو يُضَحّي ببَعض الذخيرة القديمة والجنود الذين لا يَعنون له شَيئاً، ليَكسَب الكثير مِن القيمة والإعتراف لنظامه الدكتاتوري، فبوتين يَتوَدّد إليه، وإلتقى به كثيراً، ووَصَفه بأفضل صَديق له. بالمقابل سيَمنع بوتين فرض مَزيد مِن العقوبات على كوريا. لذا بالنسبة لكيم تُعتبَر الحَرب في أوروبا كالفوز باليانصيب، فقبل عِدّة سَنوات فقط، لم يكن أحد يَرغَب في مُصافحته، ناهيك عَن تسليحه! يَحتاج الجَيش الكوري الشمالي إلى التحديث، لأن آخِر وأحدَث تطوير لطائرات قواته الجوية كان عام 1977، وبَعض مُعدّاتها أقدم، كما يَتَطَلّع كيم لتكنلوجيا الصواريخ الروسية لتطوير قدراته النووية، لذا باتَت عَواقِب هذه الشَراكة بين البَلدين واضِحة، خُصوصاً بعد زَعِم كوريا أنها نَجَحَت في إختبار أول صاروخ تَفوق سُرعته سُرعة الصَوت، وهو لم يَكُن مُمكناً لولا الدَعم الروسي.
في النهاية، تَوَجُّه بوتين نحو كوريا الشمالية دليل على يَأسه، فهو يَعني بأنه لم يَجِد مَن يَستعين به ويَتحالف مَعه غير كيم، دون أن يُفَكِّر بعَواقب هذا التحالف في زَعزعة إستقرار شرق آسيا. فتعزيز روسيا لكوريا الشمالية قد يَدفع كوريا الجنوبية للحصول على مَزيد مِن الأسلحة، بضِمنِها النووية، ما من شَأنه أن يَجعل هذا الصِراع أشبَه ببَرميل بارود قابل للإنفِجار بأية لحظة. ليسَ هذا فحَسب، بوتين عِبر تَحالفه مَع كيم يُجازف بإفساد عِلاقته مَع الصين، فزَعزعة إستِقرار شُبه الجَزيرة الكورية سيُغضِب حَليفته الأهم والأقوى. إن الصين الساعية للريادة عالمياً، والتي تحتاج لتحقيق ذلك الى إستِقرار مُحيطها الإقليمي، لن تكون سَعيدة بحاكم على حُدودها مَهووس بالأسلحة النووية، وربما هذا هو سَبَب نأيها بنفسِها عَن روسيا في الآونة الأخيرة. لذا فالثمَن الذي تدفَعَه روسيا سياسياً وستراتيجياً مُقابل جنود كوريا الشمالية باهِظ الثمَن!