لم تكن ساعات المساء الأولى ليوم الجمعة 24/1/2024 في سوريا عادية كحال الأيام السابقة، فخلال دقائق تناقلت مواقع التواصل الاجتماعي أخبارًا سرعان ما انتشرت كالنار في الهشيم، تتحدث عن عودة قائد الفرقة الرابعة في النظام المخلوع، ماهر الأسد، إلى منطقة الساحل السوري.
فجأة ومن دون سابق إنذار، عاد الأسد بحماية روسية، وأدارت موسكو محركات طائراتها الحربية لتبدأ طلعاتها الجوية في السماء السورية. بدأت هيئة تحرير الشام بسحب عناصرها وآلياتها من اللاذقية وطرطوس وأحياء دمشقية. وذهب الحالمون أبعد من ذلك مع بدء ضخ أخبار تتحدث عن انقلاب على أحمد الشرع في إدلب.
الثورة "الافتراضية" المضادة نجحت لأقل من ساعة، فمن لا يزال يحن إلى النظام شعر بالثقة المفقودة منذ الثامن من ديسمبر الماضي تعود إليه. واستخدام ماهر الأسد كشخصية اعتبارية له وقع خاص بالنسبة إلى فئة الأنصار الصامتين "المكوعين" على مضض، فاسمه لم يرتبط بالفرار كشقيقه الأكبر، بحيث إن معظم المحللين والمؤيدين للنظام السابق أجمعوا على رجم بشار، بينما تحاشوا ذكر ماهر بسوء، متحدثين عن رغبته في البقاء والقتال إلى جانب أنصاره حتى الموت، لكن إرادة شقيقه وفوقها الدول كانت أقوى منه.
ويبقى السؤال الكبير: من أعاد الأسد إلى الساحل وحرّك الأساطيل في وقت قصير؟ والإجابة قد لا تكون بعيدة عن هيئة تحرير الشام نفسها. الهيئة قد تكون مسؤولة عن بث هذه الإشاعة، ليس رغبةً في إدخال الفرح والسرور إلى قلوب مؤيدي الأسد، أو بغية كشف هوية من رفع العلم الأخضر قسرًا ولا يزال يحن إلى عودة عقارب الزمن إلى ما قبل الثامن من ديسمبر، بل لأهداف استراتيجية أخرى.
وليس خافيًا على أحد نجاح هيئة تحرير الشام في لعبة التضليل على الأقل في الفترة الماضية، فالعملية التي أطلقتها أواخر نوفمبر 2024 حملت اسم "ردع العدوان"، وتحدث قادتها عن نيتهم إبعاد النظام السوري عن مناطق التماس مع أرياف إدلب لتجنيب المدنيين عمليات القصف، من دون إبداء أي رغبة في البداية بإسقاط النظام. لكن العملية التي كان الجميع يعتقد أن حدودها حلب، انتهت في دمشق، وتحديدًا في قصر الشعب.
وبعد شهر ونصف تقريبًا على سقوط النظام، لا يشعر أصحاب السلطة الجديدة براحة كبيرة لناحية عودة الهدوء والاستقرار واستتباب الأمن، رغم الوفود العربية والدولية التي تزور العاصمة دمشق، والجولات الخارجية التي يقوم بها وزير الخارجية، أسعد الشيباني، وبرفقته الوزراء. فعلى أرض الواقع، تسيطر السلطة على مساحة لا تتعدى ما كان يسيطر عليه النظام السوري بين عامي 2013 و2015. فـ"هيئة تحرير الشام" ومعها جهاز الأمن العام تمتلك وجودًا يكاد يكون رمزيًا في محافظة درعا، وهي خارج محافظتي السويداء والقنيطرة، ولا تزال قوات سوريا الديمقراطية تحافظ على سيطرتها على المناطق المتواجدة فيها منذ سنوات. وهناك مناطق كثيرة في أرياف دمشق لا تمتلك الهيئة أي تواجد فيها، أو يقتصر نفوذها على مجموعة من العناصر في مخافر محلية، وتستعين بمقاتلين كانوا محسوبين على النظام في العديد من المدن والمحافظات لسد النقص البشري.
فيما يتعلق بالفصائل، لا تزال الأغلبية العظمى منها تحتفظ بهيكليتها وترسانتها التسليحية، من درعا إلى السويداء والشرق السوري، وحتى الشمال، حيث لا يزال الجيش الوطني السوري التابع لتركيا -رغم كل اللقاءات التي جمعت قيادته بالسلطة الجديدة والوعود التي تم التحدث عنها بخصوص انضمامه إلى الجيش السوري الجديد- يعمل بشكل منفرد عن دمشق ويخوض اشتباكات يومية مع قوات سوريا الديمقراطية في سد تشرين ومناطق أخرى في الأرياف الحلبية.
وبظل هذا المشهد الميداني المعقد، تسري أخبار هنا وهناك عن أن السلطة الجديدة لن يكون بمقدورها الاستمرار كثيرًا في إدارة الشؤون السورية. فإضافة إلى ضعف قبضتها الميدانية على الأراضي السورية، لا يبدو أن سلوكياتها الإدارية، من التعيينات في المراكز الأساسية للدولة إلى الترقيات على صعيد الجيش والأمن، تلقى قبولًا إقليميًا ودوليًا. أضف إلى ذلك أن الموفدين الذين يزورون دمشق يركزون على موضوع الانتقال السياسي الشامل في سوريا، علمًا بأن أحمد الشرع وفريقه يعتقدون أن الانتقال السياسي ومعه القرار الأممي 2254 قد سقطا بسقوط النظام.
هذه الاعتبارات مجتمعة، وفوقها الخشية من إمكانية انقضاض الجماعات المسلحة عليها في ليلة ليلاء، قد تكون دفعت بهيئة تحرير الشام إلى اختبار نوايا الداخل عبر بث أخبار تتناول عودة ماهر الأسد، وانسحاب قوات أحمد الشرع، والانقلاب على الأخير في إدلب، ليتسنى لها معرفة المناطق التي ستبدأ بالتمرد ومدى قوة الجماعات المناهضة لها في الداخل والخطر الذي قد تشكله بحال ساءت الأمور. ولكن على ما يبدو، فإن بالون الاختبار كشف بعض "المكوعين" على وسائل التواصل الاجتماعي، وبضعة مجموعات في الساحل هاجمت نقاطًا أمنية في جبلة وما حولها.