لطالما لعب الإعلام دورًا محوريًا في تشكيل الرأي العام وتوجيهه، لكنه في كثير من الأحيان خرج عن وظيفته السامية ليصبح أداة للتحريض على العنف والكراهية، بل للإسهام المباشر في تأجيج الصراعات وارتكاب الجرائم والمجازر.
ومن بين أبرز الأمثلة العالمية على هذا الدور المظلم للإعلام كانت مذابح رواندا عام 1994، حيث استُخدمت إذاعة "RTLM" لتأجيج الكراهية العرقية بين الهوتو والتوتسي، ما أدى إلى مقتل مئات الآلاف. في السياق السوري، شهدنا أدوارًا مشابهة للإعلام، حيث وقفت وسائل الإعلام الحكومية والخاصة والعديد من الإعلاميين والصحفيين والكتاب والفنانين إلى جانب السلطة الأسدية الغاشمة في حربها ضد السوريين، مسخرين أقلامهم ومنابرهم وحساباتهم الشخصية على وسائل التواصل للدعوة إلى القمع ورمي البراميل المتفجرة على المدنيين بعد شيطنتهم واعتبارهم حاضنة للإرهابيين، مبررين بذلك جرائم الحرب التي ارتكبتها الطغمة وأعوانها. و"إرهابيون" هنا تشمل كل من قال "لا" للسلطة البائدة.
الإعلام السوري ودوره في الأزمة
منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011، اتخذ الإعلام السوري الموالي للنظام موقفًا عدائيًا تجاه الحراك الشعبي، حيث استخدمت القنوات والصحف الرسمية والخاصة خطابًا يعتمد على التخوين والتشهير، ووصف المتظاهرين بأنهم مندسون وإرهابيون وعملاء. هذا الخطاب لم يقتصر على نقل وجهة نظر النظام فحسب، بل ساهم في التحريض العلني على الاعتقال والعنف والقتل والإبادة، مبررًا لها.
دعمت التغطية الإعلامية في وسائل الإعلام الحكومية والخاصة الاعتقالات الجماعية التي نفذها النظام في بداية الثورة، ثم دعمت القصف العشوائي والبراميل المتفجرة وإطلاق الصواريخ بعيدة المدى والتنكيل بسكان المدن والقرى التي خرجت ضد الطغمة الساقطة، بما في ذلك تأييد زج المتظاهرين السلميين وأصحاب الرأي في معتقل صيدنايا سيئ السمعة، الذي وصفته المنظمات الدولية بـ"مسلخ بشري". لم يقتصر دور الإعلاميين والكتاب والفنانين الموالين للنظام على التبرير فقط، بل دعا بعضهم صراحة إلى استخدام القوة المفرطة والبراميل المتفجرة والقصف العشوائي واستخدام الأسلحة الكيماوية. هناك أمثلة معروفة لشعراء وكتاب وصحفيين كرَّسوا جهودهم لهذا الغرض.
المسؤولية الأخلاقية والقانونية للإعلاميين
القانون الدولي الإنساني يجرم كل من يحرض على الجرائم ضد الإنسانية أو يساهم في ارتكابها، سواء كان ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر. فالإعلامي والكاتب والصحفي الذي يستخدم منصته أو حساباته الشخصية للدعوة إلى القتل أو تبرير الجرائم يُعد شريكًا في المسؤولية، حتى وإن لم يشارك فعليًا في تنفيذ تلك الجرائم.
في الحالة السورية، يمكن اعتبار الخطاب الإعلامي التحريضي الذي دعم جرائم الحرب، بما في ذلك القتل الجماعي والتعذيب والقتل تحت التعذيب لعشرات الآلاف والتدمير المنهجي للمناطق المدنية، خرقًا واضحًا للقوانين الدولية. ويتطلب ذلك محاسبة أولئك الإعلاميين وفقًا للقانون الدولي، تمامًا كما حدث مع الإعلاميين في رواندا، الذين حوكموا أمام المحكمة الجنائية الدولية لدورهم في التحريض على الإبادة الجماعية.
لماذا المحاسبة ضرورية؟
محاسبة الإعلاميين والكتاب والصحفيين الذين ساهموا في توحش السلطة الغاشمة وأيدوها وبرروا جرائمها ليست مجرد مطلب أخلاقي، بل ضرورة لتحقيق العدالة ومنع تكرار هذه الجرائم في المستقبل. فالسكوت عن هذا النوع من الجرائم يرسل رسالة خاطئة مفادها أن التحريض على العنف والإبادة الجماعية يمكن أن يمر دون عقاب.
إضافة إلى ذلك، فإن محاسبة الإعلاميين والصحفيين تعزز مبدأ المسؤولية الفردية، وتظهر أن القلم والكلمة يمكن أن يكونا أدوات للقتل إذا استخدما بشكل غير مسؤول. ولا يمكن للمجتمعات أن تتعافى أو تنعم بالسلام ما لم يتم محاسبة كل من ساهم في الجرائم، سواء كان ذلك بالسلاح أو بالكلمة.
كيف يمكن تحقيق العدالة؟
تحقيق العدالة يتطلب خطوات قانونية واضحة، تشمل:
1. توثيق الجرائم الإعلامية: يجب على منظمات حقوق الإنسان توثيق خطابات التحريض على العنف التي صدرت عن الإعلاميين، بما في ذلك مقاطع الفيديو والتصريحات والمقالات التي تبرر الجرائم. وهذا عمل هام يمكن أن تقوم به المنظمات الحقوقية التي تكاثرت في الحالة السورية وتلقت تمويلات دولية معتبرة، وأغلبها لم يقم بعمل ذي بال.
2. رفع القضايا أمام المحاكم الدولية: يمكن استخدام الأدلة الموثقة لرفع قضايا ضد الإعلاميين المحرضين أمام المحكمة الجنائية الدولية أو المحاكم المختصة بجرائم الحرب. وقد يكون هذا الخيار صعبًا في الحالة السورية نظرًا لطول أمد الثورة وكثرة عدد المحرضين وتفاوت مستويات التحريض، بدءًا من تهم التخوين والعمالة الخارجية وانتهاءً بتهمة الإرهاب لكل من قال "لا" للسلطة الحاكمة.
3. إنشاء قوانين وطنية تجرم التحريض الإعلامي: ينبغي على الدول التي تسعى لتحقيق العدالة أن تعتمد قوانين واضحة تجرم خطاب الكراهية والخطاب الطائفي والتحريض على العنف والجرائم. وفي الحالة السورية، وإذا أريد لهذه البلاد أن تتعافى، يجب أن يُسن قانون صارم حول التحريض الإعلامي والامتناع عن إصدار عفو عام أو خاص عن الذين شاركوا في تلك الجرائم عبر الكلمة.
4. تعزيز التثقيف الإعلامي: يجب العمل على نشر ثقافة إعلامية أخلاقية تقوم على تعزيز قيم العدالة والسلام واحترام حقوق الإنسان الفردية والجماعية. وكذلك تعزيز ثقافة المسؤولية والمحاسبة. هذا يجب ألا يُترك لضمير الصحفي أو الكاتب أو الإعلامي أو الفنان، بل يجب سن ميثاق أخلاقي وطني للعمل الإعلامي توقع عليه النقابات الصحفية والفنية والمؤسسات الإعلامية والأفراد حال التحاقهم بأي مؤسسة إعلامية، ويكون جزءًا من عقود العمل.
الإعلام أداة قوية يمكن أن تكون مصدرًا للبناء أو الهدم. وفي الحالة السورية، استخدم العديد من الإعلاميين والصحفيين والكتاب أقلامهم وكلماتهم لتدمير المجتمع السوري من خلال التحريض على الاعتقال والقتل والعنف والإبادة الجماعية وتبرير جرائم الحرب. محاسبة هؤلاء ليست مجرد مطلب للضحايا، بل هي مسؤولية إنسانية وأخلاقية تعطي رسالة واضحة بأن "لا إفلات من العقاب" لضمان عدم تكرار مثل هذه الجرائم في أي مكان في العالم.