"إِذا هَبَّت رِياحُكَ فَاِغتَنِمها
فَعُقبى كُــلُّ خافِقَـــةٍ سُكــونُ
وَإِن دَرَّت نِياقُكَ فَاِحتَلِبها
فَما تَدري الفَصيلُ لِمَن يَكونُ"
- علي بن أبي طالب
قد لا يجد التحليل السياسي الحصيف أصدق من هذين البيتين وصفاً لمدى إدراك رئيس الوزراء الإسرائلي بنيامين نتنياهو لما قدمته فعاليات ومجريات المواجهة الحالية بينه من جهة، وبين حماس وإيران وأذرعها من جهة أخرى، من فرص تُغريه بالتمسك برغبته الأكيدة في التحول بتلك المواجهة إلى حرب شاملة وواسعة في الشرق الأوسط، على الرغم مما يبدو في الأفق من بوادر تحركات دولية لوقف الحرب استهلتها الولايات المتحدة الأمريكية برغبتها في ذلك (تلك الرغبة التي عبر عنها وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن أثناء زيارته إسرائيل في مستهل جولته في الشرق الأوسط التي بدأت الثلاثاء 22 الشهر الجاري وانتهت الجمعة 25 منه). وذلك بعدما نجح (أي نتنياهو) في جعل إيران مضطرة إلى التحول باستراتيجيتها القديمة في المواجهة (استرتيجية الأذرع وتفويض الغير بالمواجهة نيابة عنها وفق فلسفة الحرب بالوكالة) إلى تبني استراتيجية المواجهة المباشرة. فعلى الرغم من إشارة واشنطن إلى أهمية استثمار موت يحيى السنوار قائد حماس وأمين عام حزب الله اللبناني حسن نصر الله ومن بعده رئيس المجلس التنفيذي للحزب هاشم صفي الدين في التحرك بالحرب نحو التهدئة والتفاوض لإنهاء القتال (وهو ما أكده المتحدث باسم الخارجية الأميركية ماثيو ميلر لدى تصريحاته عن فعاليات زيارة بلينكن المشار إليها)، إلا أنَّ هناك من المؤشرات القوية ما يدعم احتمال الذهاب بالحرب إلى نطاق أوسع وأشمل حسبما يريد لها نتنياهو، الذي يعول كثيراً على مساعدة واشنطن في توجيه ضربة قاصمة لإيران في القابل من الأيام، والذي - أيضاً - يشعر بنشوة النصر بعدما ساعدته الظروف في التخلص من السنوار وهنية ونصر الله وصفي الدين. ولعل من أهم تلك المؤشرات ما يقوم به الجيش الإسرائيلي في الوقت الراهن (مدفوعاً بفيوض النشوة التي يعيشها نتنياهو نتيجة المكاسب المشار إليها) من الغارات اليومية الموسعة (التي لا تفرق بين الأهداف المدنية والعسكرية) في قطاع غزة (الذي يكثف نتنياهو غاراته في شماله، في محاولةٍ منه لفصل ذلك الشمال عن باقي القطاع ولزيادة مساحة المنطقة العازلة) وفي جنوب لبنان، تلك الغارات التي وصلت حصيلتها في لبنان وحده في يومين فقط - وفق تصريحات إسرائيلية - إلى مقتل 70 مسلحاً من حزب الله من بينهم ثلاثة من قادة المناطق.
وعليه، ففي ضوء ما سبق؛ ليس ثمة ما يوحي بأي استعداد من جانب نتنياهو لوقف الحرب الراهنة قبل أن تؤتي أكلها وثمارها التي يرجوها في ظل ظروف يراها مواتية لضرب أكثر من عصفور بحجر واحد. تلك العصافير التي من أهمها الحلم الإيراني في مساحة نفوذ كبيرة في الشرق الأوسط الجديد الآخذ في التشكل، ذلك الحلم الذي تنتظره ضربة، أو ربما ضربات إسرائيلية موجعة بدعم من الولايات المتحدة راعية ومهندسة خريطة النفوذ المنتظرة في المنطقة؛ إذ تؤكد الأحداث ومجريات الحرب أنَّ هيبة إسرائيل باتت مرهونة بالرد على الضربة الإيرانية التي كانت على إسرائيل منذ أيام، الضربة التي يمكن النظر إليها ولمثيلاتها من الضربات المتبادلة بين إسرائيل وجماعة الحوثي في اليمن بوصفها، جميعاً، (بروفة) ومقدمة لتلك الحرب الشاملة المتوقعة في المنطقة والتي يخطط لها نتنياهو منذ الشرارة الأولى لطوفان الأقصى الذي يريد نتنياهو استثمار مآلاته في تشكيل خريطة نفوذ جديدة في الشرق الأوسط يتراجع فيها النفوذ الإيراني كثيرا لصالح النفوذ الإسرائيلي.
إقرأ أيضاً: "ردَّني إلى بلادي"... إلى السيدة فيروز
هذا ولا تقف مؤشرات اتساع نطاق الحرب إقليمياً والتحول نحو الحرب الشاملة عند تلك المؤشرات المذكورة فحسب؛ إذ إنَّ اتساع رقعة المواجهات المباشرة بين الجيش الإسرائيلي وحزب الله لتشمل مناطق عدة في الجنوب اللبناني، بالإضافة إلى توالي الغارات الإسرائلية واتساع رقعتها فيْنَةً بعد أخرى في الفترة القليلة الماضية يؤذن بقرب ما يلوح في الأفق من بوادر الحرب الشاملة المتوقعة؛ فمن غارةٍ على مخيم المغازي وسط قطاع غزة، إلى ثانيةٍ تستهدف نازحين في جباليا شمالي القطاع، إلى غارات مماثلة استهدفت بلدات في محافظة النبطية وقضاء صور وبلدة الطيبة ومجرى نهر الليطاني في أطراف يحمر ودير سريان في لبنان، إلى غارات أخرى استهدفت دمشق وحمص، إلى الحديث الإسرائيلي عن الاستعدادات لتوجيه ضربات قادمة أشد قوة وضراوة لإيران وبقية أذرعها في المنطقة؛ كل ذلك يعد مؤشرات على إصرار نتنياهو على الذهاب بالحرب إلى مصاف الحروب الإقليمية الشاملة.
إقرأ أيضاً: اليوم الوطني السعودي الرابع والتسعون بين الماضي والحاضر
بقي أن نشير إلى أن نتنياهو يعلم جيداً أن الفترة الزمنية الممتدة من الآن وحتى انتهاء فعاليات الانتخابات الأميركية هي فرصة زمنية ذهبية تهيأت له، ولن يتركها دون أن يحسن استثمارها في تحقيق أهدافه من الحرب؛ فهي فترة من أهم معالمها ضعف الإدارة الأميركية وتراخيها في ظل رئيس تشهد الوقائع بضعف حضوره وعدم جدارته بإدارة العديد من الملفات السياسية الكبيرة من بينها الحرب في أوكرانيا ونظيرتها في غزة نتيجة تقدمه في السن وضعف بنيانه الصحي. وعليه، فإنَّ نتنياهو سيذهب - في تلك الحرب - كل مذهبٍ، مستغلا تلك الفترة الزمنية المشار إليها، وإن من بين مذاهبه في ذلك مذهب التدمير الشامل للبنى التحتية في غزة ولبنان والذهاب بالحرب إلى المواجهة الصريحة مع إيران لإضعاف شوكتها وبتر أذرع نفوذها المتنامي في المنطقة.