تسير حرب غزة في طريقها إلى الشهر الثالث عشر، متخطية حاجز الأربعين ألف شهيد وسط مشهد تراجيدي تمتزج فيه رائحة الموت والخراب المنبعثة من أزقة وشوارع مدن القطاع المعتادة على الحروب. وبينما تتكرر الدعوات الدولية والأممية لوقف الحرب دون نتيجة، تزداد وطأة الأزمة الصحية والإنسانية شدة، لتتحول حياة الناجين من ضراوة المعارك والقصف إلى صراع يومي مع الحياة. ومع ذلك، لا بد أن يخبئ المستقبل للغزيين ما يبعث فيهم القليل من الأمل وسط هذا الكم الهائل من المعاناة التي يعيشونها.
قضى الغزيون 15 سنة كاملة بين الحروب الخاطفة والهدن المؤقتة والحصار الاقتصادي الخانق، ابتعد فيها السلام وحل الدولتين إلى أقصى نقطة وضاع معهما حلم ياسر عرفات بسنغافورة الشرق الأوسط. ثم جاء السابع من تشرين الأول (أكتوبر) حاملاً أحلك الفترات في تاريخ غزة المعاصر، وبدل أن يجرف الطوفان إسرائيل كما خطط يحيى السنوار، جلب معه أسوأ السيناريوهات بعد أن طُرح مخطط التهجير وخطة الاستيطان وعودة السلطة العسكرية. فهل قادت حماس قطاع غزة في الاتجاه الصحيح؟
منذ تأسيسها، قررت حركة حماس أن تسير بالقضية الفلسطينية في الاتجاه المعاكس للحل السياسي، لتجد نفسها في نفس الطريق الذي تسلكه أيديولوجية المتطرفين الإسرائيليين الرافضين لحل الدولتين. وعندما اختارت أن تدخل لعبة السياسة، حسمت تنافسها السياسي مع حركة فتح بالقوة وفرضت منطقها داخل قطاع غزة بسلطة السلاح. وأسفر ذلك عن حدوث شرخ كبير في الجسد الفلسطيني لم تنجح الوساطات العربية المتتالية في ترميمه، لتزداد القضية الفلسطينية وهناً على وهن. ويتعقد المشهد أكثر فأكثر عندما رهنت حماس خدماتها تحت تصرف الأجندة الإيرانية في المنطقة، لتسقط قضية العرب الأولى من سلم أولويات الحكومات العربية، بعد أن تحول وجود حماس في المشهد الفلسطيني إلى عامل معيق لأي مبادرة سلام عربية جادة، وكان ذلك سبباً كافياً لتبرر إسرائيل أن تنصلها من الحلول السياسية لم يأتِ من فراغ.
دفع الغزيون فاتورة الانقسام الفلسطيني واستفراد حماس بحكم غزة، ووقعوا ضحايا لانعدام الأمن الناجم عن القتال المتواصل وعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي، الذي تفاقم بعد الإطاحة بالسلطة الوطنية الفلسطينية. واتضح بعد سلسلة الحروب التي خاضتها حماس أن إسقاط أدوات التفاوض وتعويضها بلغة السلاح لا يمكن أن ينجح في فرض واقع مغاير لحياة الفلسطينيين. واتضح أيضاً أن سلام الشجعان، الذي نُعت بأقذر الشتائم، كان خضوعاً للعقل والمنطق لا خضوعاً للمحتل، وأن تجنب الحروب لم يكن جبناً بقدر ما كان تجنباً للهزيمة وإلحاق الضرر بالناس وبالقضية.
إقرأ أيضاً: نهاية السنوار هل تعني بداية عهد جديد؟
فرص حماس في حكم قطاع غزة بعد أن تضع الحرب أوزارها باتت شبه مستحيلة، لكن ذلك لا يعني نهاية الأحزان والخروج من عنق الزجاجة، بما أنها حملت سكان غزة وزراً ثقيلاً ربما سيدوم لسنين طويلة ما بين رفع ركام الدمار وإعادة الإعمار وبعث الحياة من جديد. ومع ذلك، لا بد أن يكون لعودة القطاع إلى أيدي أبنائه ما يبعث روح التفاؤل بمستقبل مغاير للأجيال القادمة بعيداً عن آتون الحروب وبحور الدماء.
إقرأ أيضاً: تجار البلدة القديمة في القدس يستغيثون
استنفدت حماس كل الفرص التي أتيحت لها من أجل تصويب مسارها والانضواء تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية، واستغنت بمصالحها الضيقة عن المصالح الوطنية والقومية العليا للشعب الفلسطيني، وغامرت بغزة والغزيين من خلال ارتهانها للمشروع الإيراني دون مراعاة لحجم الضرر الذي تلحقه أجندة إيران بمستقبل القضية الفلسطينية. وبدل إهدار المزيد من الوقت في جلسات ولقاءات المصالحة الوطنية في سبيل إنهاء الانقسام، وبدل أن تتحاور السلطة الوطنية الفلسطينية مع حركة أضحت جزءاً من الماضي، كان من الأولى أن تفتح باب الحوار والمشاركة أمام نخبة غزة المهاجرة ومنظمات المجتمع المدني من أجل الإعداد للمرحلة المستقبلية لقطاع غزة ما بعد الحرب، وهي الورقة الكفيلة بقطع الطريق أمام مخطط عودة السلطة العسكرية الإسرائيلية.