منذ زمن ليس بقريب، تفشت تجارة الأوهام على نطاق واسع في لبنان، يروّج لها سياسيون وزعماء طوائف ومصارف، وتتعاطى معها أغلبية ساحقة من اللبنانيين على أنها حقيقة مؤكدة مثبتة بشكل لا لبس فيه.
اللبنانيون الذين أصبحوا مدمنين على سماع الأوهام لم يكلفوا أنفسهم مرة عناء التوقف لبرهة والتفكير في الأمور التي وصلت إلى مسامعهم عبر قادتهم، ولكنها لم تبصر النور، وفي كل مرة لم تتطابق الحقائق مع ما وعد به المولجون بإدارة سياسات البلاد.
طوال فترة حملته الانتخابية في عام 2016، ورئاسته حتى عام 2020، ثم حملته الانتخابية الثانية الحالية، لم يقدم المرشح الجمهوري دونالد ترامب رقماً دقيقاً لعدد الوظائف التي سيعمل على خلقها في حال فوزه بالانتخابات. كان دائماً يؤكد أن وجوده في البيت الأبيض يعني استقطاباً للمستثمرين والشركات، وهذا يعني فرص عمل كثيرة ستكون مُتاحة، لكن دون الخوض في لغة الأعداد. الجرأة التي غابت عن ترامب في الولايات المتحدة كانت قد حطت في بيروت، فرئيس الحكومة السابق سعد الحريري أعلن مراراً خلال الحملة الانتخابية النيابية عام 2018 أن تسعمئة ألف وظيفة وفرصة عمل ستكون جاهزة للبنانيين بعد الانتخابات وبواسطة مؤتمر سيدر.
تمكن معظم مرشحي الحريري من الفوز، وأُسندت إليه رئاسة الحكومة وكان مؤتمر سيدر قد انعقد قبلاً، ولكن عوضاً عن خلق الوظائف ارتفعت نسبة البطالة وبدأت الشركات والمصانع بإقفال أبوابها، ولم يكلف رئيس الحكومة السابق نفسه قبل تقديم استقالته عناء تقديم تبرير للبنانيين حول خسارة وظائف بدل خلق وظائف جديدة.
وبالحديث عن رئاسة الوزراء، فقد جرت العادة أن تقدم الحكومة خطة عملها التفصيلية الزمنية قبل البدء بمزاولة المهام، غير أنه وفي إطار تجارة الأوهام، خرج حسان دياب ليقول إنّ حكومته أنجزت 97 بالمئة من التزاماتها لأول 100 يوم دون أن يتطرق إلى الإنجازات التي تحدث عنها أو حتى عن الثلاثة بالمئة المتبقية. لم يتحدث دياب ولم يسأله اللبنانيون أيضاً.
وفي الحديث عن تلك الفترة، وبظل بدء تدهور الليرة اللبنانية، قال رئيس مجلس النواب، نبيه بري، عقب مشاركته في لقاء ثلاثي عُقد بشكل طارئ في قصر بعبدا الجمهوري ضم الرئيس ميشال عون ورئيس الحكومة حسان دياب، إنَّ "الإجراءات التي جرى الاتفاق عليها في سبيل خفض سعر صرف الدولار، ستدخل حيز التنفيذ اعتباراً من اليوم، غير أن تأثيراتها الفعلية ستظهر يوم الإثنين المقبل"، موضحاً أنها تستهدف الوصول إلى سعر صرف للدولار يتراوح ما بين 3200 إلى 3000 ليرة لبنانية.
تصريح اقتصادي دفع باللبنانيين إلى تبديل دولاراتهم بالليرات، لكن الإثنين الموعود وعوضاً عن تخفيض الدولار دفع بالعملة الخضراء إلى عنان السماء، ولم يسأل أحد رئيس مجلس النواب على ماذا استند في تفاؤله.
ولأن اللبنانيين يتكيفون مع الواقع، فإن حاكم مصرف لبنان، الذي تصدر لسنوات الشاشات والمجلات والصحف مُكرّماً على إنجازاته، ربما لنجاحه في الشق المتعلق بتجارة الوهم، أدلى بدلوه في أكثر من مناسبة، ولكن الأبرز كانت المقولة الخالدة "الليرة بخير" والمصارف ضامنة لأموال اللبنانيين.
حزب الله من جانبه لم يبخل على اللبنانيين أيضاً بفعل التصريحات التي سمعها أبناء بلاد الأرز منذ عام 2006، والتي تناولت ملف توازن الرعب مع إسرائيل وإرغامها على الوقوف على قدم ونصف قبل الشروع بإزالتها من الوجود. الكلام الكبير دفع بالشعب اللبناني إلى الاعتقاد أن قوة إسرائيل تساوي قوة مقاتلي أحمد الأسير في صيدا أو في أقصى الأحوال توازي حركة فتح الإسلام في مخيم البارد التي أنهى وجودها الجيش اللبناني عام 2007.
إقرأ أيضاً: خطة حزب الله... أربعة أهداف للحرب ضد إسرائيل
وقبل هذه الأحداث، وتحديداً في عام 2005، اقتنع قسم كبير من اللبنانيين بفعل عدد من السياسيين بأن أسعار المحروقات المرتفعة، والهدر، وتضخم مديونية الدولة سببه التواجد العسكري السوري، وبأنَّ الخروج السوري كفيل بحل جميع المشاكل. خرج السوريون واستمر التضخم، وسقط عن ذهن المقتنعين بهذه النظريات أن مسؤوليهم كانوا في مركب واحد على وئام مع المكلفين السوريين بإدارة البلاد يتشاركون الغنائم والأفراح والأتراح.
وللتوضيح أيضاً، فإنَّ تجارة الوهم تمددت في البيئة اللبنانية ولم تعد مقتصرة على الصفوة بفعل التطور التكنولوجي ووسائل التواصل، فقد تجد مسؤولاً محلياً أو ناشطاً في بلدته يقنع من حوله أن الرئيس الفنزويلي، ومعه الكوبي، وفلاديمير بوتين وحتى الرئيس الصيني يتابعون عن كثب ملف الانتخابات البلدية القادمة لأن لبلدتهم أهمية كبيرة في صراع الأقطاب، والحرب الجيوسياسية والمحاور وحلف البريكس، وعلى المقلب الآخر ينبري ناشطون لبث أخبار تشير إلى أنَّ رسالتهم للأميركيين والغربيين قد وصلت وبأن واشنطن ومعها ثلة من العواصم الغربية نزلت عند خاطرهم وتعد العدة لتطبيق ما طُلب.
إقرأ أيضاً: محرقة المتوسط والحرب الشاملة على الايديولوجيا المسلّحة
في عام 1996 قدم أحد الأشخاص ترشيحه للمقعد النيابي المخصص لطائفته في جبل لبنان، ثم ذهب على رأس وفد من العائلة إلى زعيم الطائفة عله يحظى بمقعد على اللائحة. الزعيم توجه إليه بالقول اسحب ترشيحك هذه المرة لأنني سبق أن أبلغت فلاناً بأنه سيكون المرشح، وأعدك بأن المقعد سيكون محجوزاً لك في انتخابات عام 2000. شعر المرشح بالبهجة والسرور وسحب ترشيحه وانتظر أربع سنوات، وما إن دقت ساعة الانتخابات حتى عمل على تقديم طلب الترشيح وتوجه إلى الزعيم ليبلغه بالخبر ويُذكره بالوعد الذي قُطع له، فجاءه الرد باللبناني "وعدتك وغيّرت"، ولذلك قد يكون صاحب الترشيح هذا الذي لم يُبصر النور المواطن اللبناني الوحيد الذي تابع مع زعيمه السياسي الملف حتى النهاية ليتمكن من الإقلاع عن سماع "الأوهام" بنهاية المطاف.