كلما سقط حاكم عربي، تفاجأ العالم بهول مأساته، ومدى الفظائع التي ارتكبها نظامه من أجل الحفاظ على السلطة، بل إنَّ العالم العربي بدا مصدومًا ومندهشًا كيف أنَّ هؤلاء البشر كانوا يحكموننا ويسوسون بلادنا ويتحكمون بأقدارنا ومصائرنا.
وأنا أنظر إلى الكتاب المعنون بـ"نهاية التاريخ" للمفكر الأميركي من أصل ياباني فرانسيس فوكوياما، وجدت أنَّ نهاية التاريخ التي يتحدث عنها هذا الفيلسوف والمفكر المبدع، هي بداية التاريخ في الوطن العربي. ربما نسأل: كيف تستقيم نهاية التاريخ عند الآخرين مع بداية التاريخ عندنا، نحن العرب العاربة والعرب المستعربة؟ والحقيقة أن من يرون حدودًا للتاريخ عندهم كانوا قد دخلوا التاريخ مبكرًا والحضارة الحديثة، وانغمسوا في ملذات طيب العيش والرفاهية والتقدم العلمي والصناعي، وبقينا نحن، معشر العرب - وجمعها أعراب، أي البدو الأصليون، مادة العرب وملحها - والعرب المستعربة التي دخلت الإسلام ثم تعرّبت بعد الفتح العربي الإسلامي، خارج التاريخ، وعلى أطراف التقنية وأكناف الحضارة، ولم ينلنا منها إلا النزر القليل، وبقينا نكابد حكامنا منذ الدولة العباسية إلى الدولة السورية الحديثة، دولة سجن صيدنايا وعائلة الأسد. هذا الزمن الطويل الذي يربو على ألف وثلاثمئة عام مرّ على الأمة العربية كسواد الليل، مؤامرات وانقلابات، سنة وشيعة، دروز وإسماعيلية، حشاشين وقرامطة، مماليك وأكراد، أمازيغ وأفارقة، وبقايا صليبيين ورومان وأتراك. كل هذا المزيج والموزاييك البشري عانى ما عاناه من حكام جدد ما بعد انتهاء الاستعمار الغربي، نكّلوا بنا أكثر مما نكّل الاستعمار نفسه، فأصبح العربي يرجو السلامة في يومه وليله، مقطوعًا عن الإبداع، محرومًا من التنمية، يعيش على الكفاف، يكابد الظلم والاضطهاد، إلى أن مَنَّ الله على بعض العرب بالنفط، فتغير بعض حالهم، ولم يتغير كل حالهم، وبقي الآخرون، ممن لم يُفتح عليهم الله بالخير، يعيشون على أطراف الفقر والظلم والجوع والخوف من السلطان وأعوانه وزبانيته.
إقرأ أيضاً: العرب والخديعة الكبرى
بعد أن تكشفت الأحداث في بعض أقطار الوطن العربي، ورأينا ما حلّ بالعراق بعد صدام حسين، وحالة هذا الشعب المسكين، وما حلّ بالشعب الليبي بعد معمر القذافي واليمني والسوري، رأينا العجب العجاب من دمار الذات العربية، ونكبة البرامكة، في سجون ومعتقلات النظام السوري الهارب. استغرب المشاهد العربي حجم هذا الجبن عندما يقتل رجل شعبًا بأكمله ويشرده لاجئًا في كل مكان، ثم في لحظة حرجة يهرب هذا الزعيم المزيف دون أن يُخبر حتى عائلته، كلصٍّ مرعوب، تاركًا خلف ظهره مئات آلاف الضحايا من المعوزين والمساجين واللاجئين والمختفين قسرًا والنائحات والشاكيات والثكالى. ألم يكن أجدر به أن يهرب قبل 14 عامًا بالطريقة ذاتها، ويعفي ملايين السوريين من الهجرة عبر البحار واللجوء والتشرد؟ وكيف يُشرد شخص واحد 14 مليونًا وعندما يهرب ويصبح لاجئًا، يعود الملايين إلى أوطانهم؟ واحد مقابل ملايين!
إقرأ أيضاً: إشكالية قراءة العقل العربي
أعود إلى بداية التاريخ، فالعرب المفجوعون ببعض سلاطينهم المغاوير، أصبحوا يتعلمون دروسًا عميقة من خلال مشاهدتهم لما يحدث في أرجاء الوطن العربي، ولذلك نستطيع أن نعتبر أن بداية التاريخ العربي أخذت تُكتب من بعد هروب الأسد، لأن الصدمة أيقظت العرب على حقيقة جوهرية هامة، وهي أن بعض السلاطين يتشابهون، ومصير الشعوب العربية متشابه، وأن المخفي أعظم. ولذلك، سيأخذ العرب تجربة سوريا كنموذج دامٍ لحياتهم المستقبلية والماضية، وأن العرب لا يمكن لهم أن يكتبوا تاريخهم الحديث دون التفكر بما مرّ به جيرانهم من الشعوب المنعتقة من الظلام، وأن العرب اليوم ليسوا كالعرب البارحة، فالمئة سنة القادمة ستغير وجه العروبة وآليات الحكم عند العرب، ولن يقبل أحد بعد أحداث سوريا أن تنطلي عليه شعارات "بالروح بالدم نفديك يا زعيم"، فقد انكشفت الخدعة، وتوضحت الفكرة، وفهمت الجموع الدرس، وأيقنت المصير. فالعرب لن يكتبوا تاريخهم القادم إلا بعد وعي واستيعاب لما شاهدوه في آخر ثورات العرب المتمثلة في انتصار الثورة في سوريا وهروب الأسد، وإن غدًا لناظره قريب، والله من وراء القصد.