حين وطأت قدماي أرض سوريا لأول مرة بعد رحيل الطاغية بشار الأسد، شعرت كأنني أعبر عتبة زمن جديد، زمن ينهض فيه المكان من تحت أنقاض الألم، ويروي حكاياته بنفسه، دون أن يختنق بصوت البنادق أو يختفي تحت رماد القمع. كنتُ قد زرت سوريا من قبل عشرات المرات، لكن هذه المرة كان اللقاء مختلفاً كأن الأرض نفسها تتنفس بحرية بعد سنوات من الصمت القسري. كنت أبحث عن تفاصيل الحياة، عن الوجوه التي قاومت، عن الأصوات التي لم تنكسر، وعن المدن والقرى التي ظلت صامدة رغم كل ما عانته. لم تكن رحلتي مجرد مهمة صحفية، بل كانت استكشافاً لحكاية كتبتها الأرض بدم أبنائها ودموعهم، وبين طيات الغبار العالق على الجدران، وجدت الدفء في عيون الناس، وجدت الأمل في بسمة طفل، ووجدت أن سوريا لم تكن يوماً مجرد جغرافيا، بل ذاكرة حية تنبض بالحياة رغم كل ما مرّت به.
من دمشق بدأت الرحلة، تلك المدينة التي حملت على أكتافها قروناً من التاريخ، والتي رغم كل العواصف لا تزال تنبض بالحياة. كنت أمشي في أزقتها القديمة، بين الحارات الدمشقية التي تختزن عبق التاريخ، حيث تختلط روائح الياسمين بالقهوة الطازجة، وحيث تروي الجدران بصمتها حكايات من مرّوا بها، من الخلفاء إلى الشعراء، ومن التجار إلى المقاتلين. دمشق، تلك التي عاشت كل أنواع الصراعات، لا تزال تحتضن زوارها كأنها ترفض أن تخسر هويتها العريقة.
إقرأ أيضاً: العثماني الحقيقي ليس تركياً
من هناك، امتدت الرحلة شمالاً، مروراً بحمص وحماة، المدينتين اللتين شهدتا من الفصول ما يجعل الحجر يبكي. في حمص، كانت البيوت التي بقيت شامخة رغم الدمار تروي صمود من عاشوا فيها، وفي حماة، كانت نواعير العاصي تدور ببطء، كأنها تأبى أن تتوقف رغم كل شيء. الطريق من حماة نحو حلب كان مليئاً بالمشاهد التي تحكي عن شعب لم يعرف الاستسلام، رغم كل ما مر به.
حلب، المدينة التي كانت يوماً درة التجارة والثقافة، لا تزال رغم جراحها تحتفظ بجوهرها. في أسواقها، التي تعافت جزئياً من الخراب، كان التجار يعرضون بضائعهم كأنهم يحاولون إعادة الحياة إلى ما تبقى من المدينة. في القلعة، التي وقفت شاهدة على كل الغزوات، شعرت وكأنني أمام ذاكرة صلبة تأبى أن تمحى. من هناك، تابعت طريقي شرقاً، نحو الرقة، نحو الأرض التي عاشت بين ظلال الموت ونهضت من بين الركام.
الرقة… مدينة تهمس بحكايات الزمن، تمتزج فيها رائحة الفرات العذبة بصوت الحياة الذي لا ينطفئ رغم كل ما مرّ بها. عند وصولي إليها، شعرت وكأنني دخلت قلب التاريخ، حيث تمتد شوارعها شاهدة على أزمنة تعاقبت، وحيث يروي النهر قصص الأجداد الذين عاشوا على ضفافه. في السوق القديم، وجدت الوجوه التي تحكي بلا كلمات، والعيون التي تحمل حنينًا لأيام مضت وأملاً بأيام قادمة.
من الرقة واصلتُ طريقي نحو الحسكة، حيث تختلط اللغات كما تتداخل الألوان في لوحة زيتية متقنة، هنا في هذه المدينة التي تتسع للجميع، لم أكن غريباً، فكل وجه صادفته حمل ترحيباً صادقاً، وكل طريق سلكته قادني إلى حكاية تُروى ببساطة أهل المكان. في الأسواق، امتزجت رائحة القهوة المحمصة بعبق التوابل القادمة من كل مكان، وفي الحقول، كان المشهد أشبه بلوحة زراعية تمتلئ بالحياة.
في عامودا، أدركت أن الجمال ليس في المباني ولا في الشوارع، بل في الروح التي تنبعث من المكان. رأيت هنا مجتمعاً متماسكاً، حيث الأحاديث تدور حول الأرض والمحاصيل، وحيث الضحكات تنطلق كأنها تعويذة تبعد عنهم كل هم. المزارعون الذين التقيتهم لم يكونوا مجرد أناس يعملون في الحقول، بل كانوا شعراء يكتبون قصائدهم بأيديهم، وكل سنبلة قمح كانت بيتاً من أبيات تلك القصيدة.
إقرأ أيضاً: أوجلان... ميلاد جديد من القيود إلى الأسطورة
حين وصلتُ إلى القامشلي، شعرت وكأنني أقف عند نقطة تلتقي فيها الثقافات، مدينة تتحدث أكثر من لغة، وتنبض بأكثر من إيقاع. في شوارعها، تسمع العربية إلى جانب الكردية والسريانية، وترى الكنائس والمساجد جنباً إلى جنب، كأنها تعلن بصمتها أن الاختلاف ليس انقساماً، بل امتدادٌ للجمال.
وفي رميلان، تتحدث الأرض بلغة النفط، لكنه ليس الثروة الوحيدة هنا، فالأرض تحتضن تاريخاً من العمل والكدح، وأناساً جعلوا من الصخور دروباً للحياة. بين أنابيب النفط وحقول القمح، تتناغم رائحة الأرض مع تعب الرجال الذين يروون قصصهم بحماس، كأن كل قطرة نفط تحكي عن جهدهم.
وفي الدرباسية، وجدت هدوءاً يشبه همسات المساء، مدينة صغيرة لكنها تحمل دفء العائلة.
أما رأس العين، فكانت جرحاً مفتوحًا في الجغرافيا، مدينة كانت تنبض بالحياة، لكنها اليوم تئن تحت وطأة الاحتلال التركي، رأيت كيف تحولت الأزقة التي كانت تضج بالحياة إلى ظلال موحشة، وكيف هُجّر سكانها قسراً من بيوتهم ليقطف آخرون ثمار تعبهم. كانت المدينة تصرخ بلا صوت، وتروي للعابرين حكاية الألم الذي لم ينتهِ بعد.
إقرأ أيضاً: هل نعيش فوق مدن لا نراها؟
وفي تل تمر، بدت الحياة أقرب إلى القصائد التي تُحكى لا التي تُكتب، حيث الحقول تمتد بلا نهاية، وحيث القرى الصغيرة تحضن ساكنيها كما تحضن الأم طفلها. الكرم هنا هو اللغة الأم.
ثم وصلت إلى تل براك، ومن بعدها إلى الشدادي، حيث كنت شاهداً على تفاصيل الحياة التي لا تُكتب في التقارير الصحفية. الوجوه هنا تحمل تعب الأيام وصدقها، والأحاديث لا تدور حول السياسة، بل حول الحصاد، والأفراح البسيطة، والمطر الذي ينتظره الجميع بقلوبٍ ممتلئة بالدعاء.
خمسُ أيامٍ كانت كافية لأدرك أن هذا المكان ليس مجرد مدن وقرى، بل روحٌ تعيش في تفاصيل الحياة اليومية. حين غادرت، لم أشعر أنني أتركه خلفي، بل شعرت أنني أحمل جزءاً منه معي. هناك أماكن يمر بها الإنسان وينساها، وهناك أماكن تمر هي به، فتسكنه إلى الأبد.