: آخر تحديث

أصيلة التي تَزينت ذات نهار

2
2
1

تابعتُ جثمان محمد بن عيسى، وهو عائد من العاصمة الرباط إلى مدينة أصيلة؛ حيث ووري الثرى فيها، فتذكرت جثمان نزار قباني، وهو عائد بدوره يوماً من لندن إلى دمشق؛ حيث ووري الثرى في أرض الشام.

كان نزار قد رأى جثمانه العائد بعين الخيال، فكتب يقول: «وهكذا يعود الطائر إلى عُشه، ويعود الطفل إلى حضن أمه».

تابعت وتذكرت، لأتبين أن بن عيسى كان يزرع ما يزرعه من الغرس في أرض أصيلة، حتى إذا عاد إليها في ختام الرحلة، كان في استقباله ما عاش يزرعه في المدينة، وما عاش أبناؤها وضيوفها يشاركونه البهجة في زراعته على مدى سنين.

وكنت في موسم أصيلة الذي أنهى أعماله في الخريف، قد لاحظت أن الرجل يجلس على كرسي بعينه في قاعة الندوات، في مركز الحسن الثاني للملتقيات الدولية في المدينة. فهذا الكرسي بالذات هو ما كان الطيب صالح يجلس عليه في كل موسم، ولم يكن أديب السودان يغيره من موسم إلى موسم.

لاحظت جلوسه على مقعد الطيب، ولاحظت أنه يُصغي كعادته إلى ما يقال في القاعة، ولكنني لسبب خفي تشاءمت من اختياره هذا المقعد من دون مقاعد المكان، وبدا لي وقتها وكأن مؤسس منتدى أصيلة الثقافي الدولي يحن إلى لقاء الطيب. ولا أزال أذكر كيف أنه كان ذات يوم قد اصطحبني في جولة في أرجاء مركز الحسن وهو يسألني: هل تعرف ماذا بالضبط كان هذا المركز من قبل؟ أجبت بالنفي، فسارع يقول: كان إسطبلاً للخيول!

ولكن ما حدث أن إسطبل الخيول صادف إرادة نادرة عاش بها بن عيسى إلى آخر أيام حياته، فكان يستطيع بها أن يوظف كل شيء في المدينة في مكانه، فيصبح هذا الشيء ملمحاً من بين ملامح رسمت صورة أصيلة مقصداً لأهل الفكر والثقافة والإبداع.

في الموسم الأخير، كانت القارة السمراء محوراً أهم بين محاور الجدل والنقاش. وحين حضرتُ جانباً مما قيل كتبت أقول: «مدينة تحتضن قارة» فكتب هو إليَّ يُعلّق ويقول: «جميل جداً هو العنوان».

أذكر الآن تماماً كيف أنني كنت أهاتفه قبل ثلاث سنوات، فقال: «أنوي أن أنظم المنتدى ثلاث دورات مقبلة، ثم أستريح». سمعتُ عبارته فجزعت، ودعوتُ له بالسلامة وطول العُمر، ولكنه كان وكأنه يقرأ الغيب، أو كأنه من الذين قيل فيهم: «إن لله عباداً إذا أرادوا أراد». فلقد نظم الدورات الثلاث بالضبط، ثم استأذن في الغياب.

وكنت قد قرأت لأديب المغرب أحمد المديني، يقول صباح السبت، إن جسد بن عيسى سيصل إلى المسجد الأعظم في أصيلة عصر اليوم التالي، الأحد؛ حيث سيُصلَّى عليه، ثم سيُوارى الثرى في المدينة القديمة. قرأت ما كتبه الأستاذ المديني فتنبهت إلى أن باب المسجد الأعظم يقع على مسافة أمتار من مدخل مركز الحسن، وتساءلتُ بيني وبين نفسي: كَمْ كان بن عيسى يمر من هنا، وهو لا يدري أن بدء رحلته إلى العالم الآخر سيكون من هذا الباب؟

إن بيته في أصيلة يحمل رقم 12، زنقة سيدي مرزوق، ويقع على بُعد خطوات من الشارع الذي يضم المركز والمسجد، بينما تقع مكتبة الأمير بندر بن سلطان قبل الشارع بخطوات أيضاً. وقد كنا نقطع هذه المسافة بين البيت والمكتبة مشياً على الأقدام في كل موسم. وكنا نمر من أمام المسجد الأعظم، ولم يكن أحد منا يدري، ولا كان الرجل يدري، أن باب المسجد يحصي عليه خطواته في كل مرة يمر فيها من أمامه، حتى إذا انقضى ما هو مقدَّر له في الشارع من خطوات، كان عليه أن يدخل الباب، ولكن يدخله هذه المرة محمولاً على الأعناق.

ورغم أن أصيلة مدينة صغيرة بمقياس المساحة وعدد السكان، فقد قُيّد لها واحدٌ من بين أبنائها ليرفع لها ذِكرها في المغرب، وفي المنطقة، وربما في العالم. آمن ابنها الذي جاء إلى الدنيا على أرضها عام 1937 بأن الثقافة قيمة باقية، وأن العمل الثقافي يدوم أثره ولا ينمحي، وأن موقع المدينة الحالم على المحيط يؤهلها لأن تكون فضاءً ثقافياً، يستقبل كل ضيف فيحنو عليه ويفتح أمامه ذراعيه.

كانت أصيلة تتزين في كل موسم جديد من مواسم منتداها، وكنا نلاحظ زينتها ونبتهج بها ونفرح، ولكننا لم نكن نعرف أنها تدّخر زينتها كلها لتُودّع بها ابنها البار ذات نهار.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد