: آخر تحديث
التعليم ما بعد الحداثي:

رحلة في متاهات التحجر لتخريج العقول المعلّبة

5
5
4

في الغرب، يبدو التعليم كمدينة فاضلة لا تستيقظ من أحلامها. هناك، لا تُعامل العقول كمخازن تحفظ دون أن تفكر، ولا يُنظر إلى الطالب بوصفه رقمًا في إحصائية نجاحات الدولة. إنه تعليمٌ يتمرد على القيود، وينحني أمام فضول العقل، لا أمام مناهج جامدة كُتبت في عصرٍ سلف.

في المدارس والجامعات الغربية، ترى طلابًا يناقشون مع أساتذتهم كأنهم نُدٌّ لهم، لا يهابون السؤال، ولا يخشون التشكيك في المقولات الجاهزة. هناك، لا يُلقَّن الطلبة الإجابات، بل يُدرَّبون على طرح الأسئلة الصحيحة. كل فكرة قابلة للمراجعة، وكل نظريةٍ مشروعٌ قابل للانهيار، وكل معرفةٍ تحتاج إلى برهان جديد كي تبقى على قيد الحياة.

ولكن حتى في هذا العالم المثالي، لا يزال التعليم يحاول الهروب من مأزق اليوتوبيا التربوية Educational Utopia. فبين من يريد تحرير العقول، ومن يخشى فوضى المعرفة، تقف المؤسسات الأكاديمية في المنتصف، ممزقة بين الحاجة إلى الإبداع، والخوف من أن يُخرج التعليم أجيالًا لا تعترف بسلطةٍ المعلم، ولا سلطة العلم ذاته.

إقرأ أيضاً: انسجام الفكر العلمي والإنساني في سوق العمل الحديث

أما في العالم العربي، فالتعليم لا يزال يُصارع الجدران. جدرانٌ من المناهج المتحجرة، وجدرانٌ من التقاليد البالية التي لا ترى في السؤال إلا جريمةً في حق الطاعة، وجدرانٌ من الأنظمة المتهالكة التي تُحب العقول التي تُنصت، لا العقول التي تُناقش... التعليم هنا يشبه مدينةً تحرسها سلطاتٌ خفية، لا ترى في المعرفة إلا قيدًا يجب التحكم فيه، لا بابًا يجب فتحه.

نحن نعيش في عالمٍ نُحارب فيه لامتلاك حق التفكير، لا لامتلاك المعرفة. فالمعرفة تُوزَّع في المدارس مثل الحصص التموينية: بقدرٍ محسوب، وبمواصفاتٍ صارمة. لا يُطلب من الطالب أن يُضيف إلى المعرفة معرفة، وإنما أن يستهلكها كما هي، باردةً كما لو أنها جثةٌ خرجت للتو من ثلاجة التاريخ.

هنا، لا تزال اليوتوبيا التربوية حلمًا مؤجلًا؛ لأننا نعيش في مجتمعاتٍ تخاف من أن يطالب الحالمون بتحقيق أحلامهم. يخشون أن يأتي يومٌ لا يكتفي فيه الطالب بملء ورقة الامتحان، وإنما يسأل: لماذا نكتبُ الإجابات بدلًا من أن نصنع الأسئلة؟ لماذا لا يكون المنهج ساحةً للحوار، لا غرفةً للتلقين؟ لماذا لا يكون التعليم طريقًا نحو الحرية، بدلًا من كونه وسيلةً لصناعة المزيد من النسخ المتشابهة؟

إقرأ أيضاً: التعليم الإنساني: ثورة على التشيؤ الأكاديمي

لا شيء يقتل التعليم أكثر من أن يتحول إلى مقامرة، لا إلى مغامرة. لا شيء يُفسد الفكر أكثر من أن يُعامل كسلعة، تُباع وتشترى، بينما تغيب روح المعرفة الحقيقية. نحن بحاجة إلى تعليمٍ جديد، تعليمٍ يُكرِّر الماضي؛ ليعيد تأويله، تعليمٍ يُخبر الطالب أن مكانه داخل المستقبل لا داخل الفصل، حيث لن يكون مجرد متلقٍ، بل سيكون مؤلفًا لمعرفته الخاصة.

فهل نستيقظ يومًا على مدارس وجامعاتٍ لا تخاف من الحلم؟ أم أننا سنظل نحيا في عالمٍ يربّي العقول على الطاعة، ثم يشكو من غياب العباقرة؟


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في كتَّاب إيلاف