: آخر تحديث

المضيُّ قُدُماً

2
2
1

لا بدَّ لحصول المصالح من عملٍ متواصل، واستمرار في التصميم على النجاح، وهذه سمةٌ مشتركةٌ بين جميع أنواع المنافع، فلا فرق فيه بين المنافع الدينية والدنيوية، وبين المكاسب الماديَّة والمعنويَّة، فكلُّها لا تتكامل في لحظةٍ، ولا تؤتي أكلَها بينَ عشيّة وضحاها، بل تحتاج إلى أن تُغرسَ بذورُها في المنبِتِ المناسب، ثم يتعاهدها صاحبها بالعزم والجدِّ والإخلاص، من غير وقوف عند مرحلة، ولا توانٍ في تنميةٍ، والوفاءُ بمقتضى هذا المعيارِ صعبٌ؛ ولصعوبته تقاصر من تقاصر عن تحصيل الإنجازاتِ الكبيرةِ، والغالبُ أن يشرع الأقرانُ في التماس المصالحِ، ومعالي الأمر في وقتٍ واحدٍ، فلا يصلون إلى مرحلة من مراحل الإنجاز، إلّا وينقطع عندها قوم؛ لفتور في عزائمهم، لا لتعذر الاستمرار، ولا لانسداد الطُّرقِ وفقد الوسائل، ويمضي غيرُهم قدُماً يلتمسون الإنجازاتِ، ويتغلَّبُون على الصِّعابِ، وإنما يصلُ منهم إلى الذِّروة من وفّقَه اللهُ تعالى، وألهمه عزيمةً لا تفتُر، وطموحاً لا حدودَ له، وكانَت قاعدته في مضيِّه إلى الأمامِ تجسيداً لقولِ من قال:

(إِذا غامرْتَ في شَرَفٍ مَرُومٍ ... فَلَا تَقْنَعْ بِمَا دون النُّجومِ)

فلا يزيده إنجازُ اليومِ إلا حماسةً وإصراراً على أن يكونَ إنجازُ الغد أبرعَ وأبهى، ولي مع المضيِّ قُدُماً وقفات:

الأولى: الموفَّقُ من إذا توجهت نفسُه إلى تحقيق منفعةٍ من منافعهِ لم يصرفه عنه طولُ طريقِها، ولا كونُ وسائلِها وشروطِها مُكلِفةً، بل يجعل مثل هذه التَّحدِّياتِ حوافزَ لصقلِ مواهبِه، وتمرينِ عزيمته على مواجهةِ العقباتِ، وأولى ما رغبَ فيه الإنسانُ تحقيقُ مصالح الدارِ الآخرةِ، ولا تتحقّقُ إلا بالتعبُّد لله وحده لا شريك له، والقيامِ بوظائف التّكليفِ، ولا بدَّ في ذلك من مُراغمةٍ للنفسِ، وتطويعِ القلب واللّسانِ والجوارحِ لما كُلِّف به الإنسانُ، ولا يستوي من بذل جهده في ذلك ومن لم يبذله، كما قال تعالى: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ)، وكذلك مصالح المعاشِ -لا سيَّما العُليا منها والتي يتعدّى نفعُها- إنما تنالُ بإذن الله تعالى ثم بالتّشمير، ولا ينبغي أن يمتعضَ العاقلُ من ارتباط المصالح بالسَّعي؛ فإن ارتباطهما جارٍ على الحكمة الإلهيَّة في قسمة الأرزاق بين العبادِ، وتفضيلِ بعضهم في ذلك على بعضٍ، كما قال تعالى: (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)، فلو تيسّرَ كلُّ أمرٍ مرغوبٍ فيه، حتى كان في متناوَل أيدي الجميعِ لاستوى في تحصيلِه الكسولُ والجادُّ، ونافسَ فيه أهلُ المللِ والسّآمةِ أهلَ العزم والمثابرَة، وهذا يُقَلِّل من شأن المعالي، ويجعلها مبتذلةً منزوعةَ القيمة، وصدق من قال:

لولا المشقَّةُ ساد النَّاسُ كُلُّهُمُ

... الجودُ يُفقِرُ والإقدامُ قَتّالُ

وإنما يبْلغُ الإنسانُ طاقتَهُ ...

ما كلُّ ماشيةٍ بالرَّحْلِ شِملالُ

الثانية: حفظ الموجود هو الدّربُ المستقيم الذي يجب سلوكه على من أراد أن يمضيَ قدماً، ولا ينجزُ إلا من يصونُ أساساتِ إنجازاته، ولا يسمح لها بالزوال والاضمحلال، ولا تتكامل الأماني لمن اعتاد أن يكون هدّاماً لا يهتمُّ بأمرٍ إلا إذا أهملَ غيرَه، ولا يجتهد في عبادةٍ إلا بترك غيرِها، ولا يقبلُ على معرفةٍ إلا بالهجرانِ التامّ لغيرها، ولا يستثمر في مجال حتى يحرمَ نفسَه من الاستفادة من بقيّة المجالاتِ، ولا يصفِّي الصداقة لمن تعارف معه اليومَ إلا إذا قطع الصّلة بأصدقاء الأمسِ وتنكَّر لهم بلا سبب ولا داعٍ، بل لمجرّدِ أنه لا يحسِنُ البناءَ على الأساسِ، وليس في قلبه إلا مكانٌ واحد إذا شغله فلانٌ غادره فلانٌ، وهذا داخل في عموم النّهي الوارد في قوله تعالى: (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ).

الثالثة: المضيُّ قُدُماً لا يختصُّ بإنجازات الإنسانِ في أموره الشخصيّة، بل من صميمه الإسهامُ في تقدُّم الوطنِ بكلِّ ما تيسّر من جهد، وقد أكرمنا الله تعالى بما تحقَّقَ لدولتنا المباركة المملكةِ العربيّة السعوديّة من إنجازات نحمد الله تعالى عليها، ثم نشكر عليها قيادتنا الرشيدة، وعلينا الإسهام في المضيِّ بها قُدُماً، وهذا الإسهام له وسائلُ عامّةٌ وخاصّة، أما الوسائلُ العامّة فوحدةُ الصّفّ؛ واجتماعُ الكلمة، والالتفاف حول القيادةِ، والابتعاد التّامُّ عن كلِّ يؤثّر سلباً على المسيرةِ الوطنيّة الميمونة، من مخالفات الأنظمة، والتأثّر بالأفكار الهدّامة، وأما الوسائل الخاصّةُ فحسن استثمار المواهب والطّاقات، فمن عرف من نفسه أو من ولده موهبةً نوعيّة تخدم الوطنَ، فعليه أن يبذل الجهد في تنميتها وصقلها، والدولة -وفقها الله تعالى- توفّر للجميع الفرصَ الداعمةَ لذلك، فعلى الفرد والأسرة أن يستفيد منها مجتهداً في أن يضيف إلى رصيد الوطنِ خدمةً تليق به.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد